في المقال السابق قلنا إن الاستدارة التركية ستعكس نفسها على الحالة الفلسطينية، ليس فقط لأن تركيا هي واحدة من الدول المهمة والكبيرة في الإقليم "الشرق أوسطي"، وهي عضو في منظمة حلف شمال الأطلسي، وتتموضع في حيز جغرافي شديد الأهمية لكامل هذا الإقليم، وليس لأنها الدولة الأقوى اقتصاديا وعسكريا ـ إذا استثنينا إسرائيل ـ فحسب، وإنما لأن تركيا تملك عوامل للتأثير على الحالة الفلسطينية من خلال علاقتها الخاصة مع حركة حماس، ومن خلال العلاقة الأكثر خصوصية مع قطر، والتي تتولى رعاية مصالح "الإخوان المسلمين" في قطاع غزة، وتشرف بصورة مباشرة على الجناح الفلسطيني لهذه الجماعة ممثلا بحركة حماس.
ليس هذا فقط، بل إن الدوحة وأنقرة بطبيعة الحال هما قاعدتا الارتكاز السياسيتان الوحيدتان لحركة حماس في الخارج، وبات من المستحيل على حركة حماس "الإفلات" من قوة هذا التأثير حتى لو أن حركة حماس "أرادت" أن تتملص من هذا التأثير لأسباب "تكتيكية"، وخصوصاً لجهة التأثير الإيراني على الحركة.
الآن وبالملموس ما المتوقع أن يكون عليه الموقف التركي، وبأي معنى، وبأي اتجاه ستسير العلاقة بين حركة حماس وبين تركيا، وأين هي أوجه التطابق بين الموقف التركي والموقف القطري، وما هي الكيفية التي سيتم من خلالها "ضبط" التنسيق بين الدولتين بهدف "تجسيد" متطلبات الاستدارة التركية على الأرض، وبهدف توفير "الإخراج" المنظم لتغيير مسار التأثير على حركة حماس؟
ليس من السهل قراءة كل شيء هنا، لأن الكثير من التفاصيل ما زالت طيّ الكتمان، لأسباب تتعلق بعدم توفر بعض المعطيات التي تتعلق بالتمهيد والإعداد والتجهيز، لكن الأمر وبقدر ما يتعلق بقراءة الاتجاه يصبح ممكناً، بل ومتاحاً لأن الاستدارة التركية أصبحت واقعا معلنا وهي قيد "الإنجاز" المتدحرج.
اقرأ/ي أيضاً: تركيا: استدارة كاملة على الطريق!
طبعاً لن تستجيب تركيا للطلب الإسرائيلي بإغلاق كل المؤسسات التابعة لحركة حماس في تركيا، والتي يبدو أن إسرائيل على دراية بها، وتستمر في رصدها وتتبع نشاطاتها، ولكن تركيا ستفرض ـ كما أرى ـ قيوداً كبيرة على هذه المؤسسات، وهناك من المؤشرات ما يكفي ويزيد على هذا التوجه.
هنا يطرح السؤال حول كشف تركيا للخلية التي كانت تعمل لصالح "الموساد"، والذي يظهر أن من بين أعضاء هذه الخلية، إما كوادر "سابقة" في حركة حماس، أو ما زالت عاملة وفاعلة فيها. والسؤال هو فيما إذا الكشف عن هذه الخلية قد جاء صدفة أم أن الأمر كان "محسوباً" من حيث التفاصيل ومن حيث التوقيت أيضاً؟!
وخلاصة القول هنا هي أن تركيا ستستخدم ذريعة الأمن القومي التركي لفرض قيود معينة على حركة حماس، وعلى نشاطاتها على الساحة التركية، وهي لن تعدم الوسائل والمبررات على كل حال الأمر المؤكد أن قطر كانت قد وعدت إسرائيل بتقليص الوجود القيادي الدائم والكبير للحركة في الدوحة، وتحول ـ كما يقال ـ هذا الوجود إلى استضافات للقيادة العليا للحركة في إطار جهود قطر "لترويض" الحركة، وإعدادها للدخول على خط التسوية السياسية.
ليس هنا من شك مطلقاً بأن قطر تفكر مليا وجديا بتجربة ترويض "طالبان" و"نجاحها" في الاتفاق مع الإدارة الأميركية على خطة تسليم وتسلّم الحكم في أفغانستان، وهي ترى نفسها (أي قطر) قادرة على تكرار المحاولة مع حركة حماس.
تركيا تواكب وتراقب هذا المسار القطري، وهي ليست بعيدة عنه، وتتبناه في الواقع، ولكنها لم تكن قادرة على الإفصاح عنه قبل أن يبدأ مسار الاستدارة، وقبل أن تحسم القيادة التركية أمرها بهذا الاتجاه.
والسؤال الأهم هنا: بأي معنى ستحاول قطر، وستحاول تركيا تجهيز حركة حماس للانخراط في التسوية السياسية؟
والسؤال ليس لمجرد التوقع، وإنما لأن هذا السؤال يحمل في طياته من الأبعاد والنتائج على الحالة الفلسطينية ما هو كبير وخطير إلى أبعد الحدود، وأكثرها تأثيراً وحساسية.
لمن ستنحاز تركيا بالمعنى المباشر في الإجابة عنه؟ هل ستنحاز للفهم الإسرائيلي أم للفهم الأميركي؟
وهل ثمة فوارق حقيقية بين الموقفين؟
وهل ستقبل تركيا وكذلك قطر أن يكون دخول وإدخال وإقحام حركة حماس في التسوية السياسية بثمن الإبقاء على الانقسام، أم بثمن تصفية المشروع الوطني والاكتفاء بالإبقاء على القطاع منفصلا، ولكن "مرفهاً" قليلاً، أم بإجبار حركة حماس على التوصل إلى صفقة سياسية مع القيادة الشرعية، والقبول بالعمل من داخل النظام السياسي، وإرجاء تمكين حركة حماس من السيطرة على هذا النظام إلى مراحل قادمة ومتقدمة؟
الذي أراه أن حكومة التطرف اليميني في إسرائيل ليست جاهزة للتعاطي "المرن" مع استراتيجية "ترويض" حركة حماس، وهي على درجات من التطرف والانغلاق والغلو ما يخرجها عمليا من هذه الدائرة، وسيقتصر دورها على المسائل الميدانية، وعلى التدابير التنفيذية للتوافقات ذات الطابع "التدابيري" إذا جاز التعبير.
والمحاولة التركية القطرية ستركز جهودها مع الإدارة الأميركية أكثر من تركيزها على الجانب الإسرائيلي لأسباب كثيرة معروفة وهناك منافسة كما هو واضح بين الإمارات وقطر إذ تحبذ أبو ظبي "الطبخ" مع إسرائيل مباشرة، وتتبنى الأفكار والمواقف الإسرائيلية، بل هي "تشاكس" الموقف الأميركي على أكثر من صعيد، في حين أن تركيا وقطر لا تتبنيان المواقف الإسرائيلية بالكامل، ولكنهما مستعدتان للعمل مع الولايات المتحدة بانفتاح تام.
أما وأن تركيا، الآن، ومن خلفها قطر تتجه لتطبيع علاقاتها (علاقاتهما لاحقاً) مع الإمارات العربية وباقي دول الخليج، وترغبان في تطبيع علاقاتهما في مصر، فإن تركيا ستضغط هي وقطر على حركة حماس باتجاه إيجاد "تسوية" سياسية مع الشرعية الفلسطينية جوهرها إنهاء الانقسام شكلاً، والإبقاء عليه من حيث الجوهر، والدخول في حكومة وحدة وطنية مؤقتة على أمل "فرض" دخول "حماس" إلى المنظمة وإعطائها "مكانة" خاصة في النظام السياسي الفلسطيني الجديد، والذي سينبثق إما عن الانتخابات، أو عن التوافق عليه.
المراهنة التركية والقطرية هي مراهنة بعيدة المدى والأهداف، والإدارة الأميركية ليست بعيدة عن هذه المراهنة، والتي جوهرها هو انتظار تصدع الحركة الوطنية وتفككها بحيث تكون "حماس" هي "الوريث" الوحيد الممكن لهذا النظام.
إذاً، ليست تركيا مع أن تصادم حركة حماس، الآن، النظام السياسي برمته، وإنما أن تكون جزءاً منه لكي تنقض عليه في مرحلة وهن الحالة الوطنية وتفككها!
هذه المراهنة لا تتناقض في الواقع مع المواقف الإيرانية إلا جزئياً، وهي تتقاطع مع أطراف "فاعلة" في الائتلاف الحاكم في إسرائيل، وهي بالمجمل ستكون مقبولة من النظام العربي.
ليس صدفةً أبداً أن جاءت الرسالة الأخيرة لحركة حماس، وليس صدفةً أبداً أن يشهد المجتمع الفلسطيني في الضفة المزيد والمزيد من مظاهر التفكك الاجتماعي والمجتمعي على حد سواء.
بل وليس صدفة أن يكون القادم كله هو مجرد مقدمات لما يجري الإعداد له من تغيرات كبيرة في الواقع الفلسطيني.
ويبقى السؤال هل تدرك الفصائل الوطنية من كل أنواع الفصائل هذه التوجهات والأخطار؟
وهل لديها خطط لمواجهتها، أم أنها قد "غرقت" وربما تاهت في البحث عن "البقاء" بأي ثمن؟ وبذلك تكون قد شاركت في الوصول إلى النتيجة التي تخطط لها كل الأطراف التي تتربص بالحالة الوطنية؟