تظلُّ الجزائر ومصر فى علاقتهما- مَدًّا وجَزْرًاـ مَحْكُومَتيْن بتاريخ مشترك، هو بالأساس نتاج لمرحلة تحريرهما، والوطن العربى كلُّه وبعض من دول إفريقيا وآسيا، من الاستعمار، وأيضًا ما تحقق بعده من خلال قيام الدولة الوطنية، التى واجهت، ولاتزال، عقبات، عطلت مسيرتها التنموية، وعكَّرت صفو استقرارها، وفى بعض المحطات الكبرى كادت تعصف بها، وتعيدها إلى مرحلة «ما قبل الدولة».
لذاك لا غَرْوَ حين تركِّز وسائل الإعلام المختلفة فى الدولتين، خلال زيارة الرئيس الجزائرى عبدالمجيد تبون إلى مصر، يومى الإثنين والثلاثاء الماضيين (24ـ 25 يناير الجارى)، واستضافته من طرف الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى، على ذلك الماضى، فى محاولة منها لتناول الحاضر باعتباره يمتلك مرجعيَّة تاريخية، خاصة فى جانبها الإيجابى.
لاشك أن وسائل الإعلام تلك مُحقةٌ فى ذلك إلى حدٍّ بعيدٍ، لكن هل القضايا المشتركة بين الدولتين فى الحاضر والآنى، مكفولة- طرْحًا وبحْثًا- بذلك الماضى الجميل دون النظر إلى الاختلاف الجوهرى فى فهم وقبول سلطة الدولة المركزية لدى الشعبين الجزائرى والمصرى؟
الإجابة عن السؤال أعلاه ستذهب بنا بعيدًا فى أعماق التاريخ، أى إلى آلاف السنين، ما فيه تلك السابقة عن مولد المسيح عليه السلام، حيث ظهور ونشوء الدولة بشقيها المدنى والعسكرى، لذلك فإن التحليل السياسى المرتبط بالأحداث مُجْبر على تجاوزها، لكن مع حفظها فى الذاكرة مادام حديث الحاضر فى الخطاب الإعلامى يُصرِّح بذِكْر التاريخ، والخطاب الإعلامى يُلمِّحُ إليه، وأقصد هنا تاريخ العقود السبعة الماضية، وهناك- بلا ريب- توجيهات من السلطات الرسمية لجمْع الخطابين معًا، وفى أضعف الأحوال يعمل المشرفون هنا وهناك على تقديم صيغ للحديث مؤثرة فى الشَّعبيْن لتحقيق مصالح مشتركة بينهما ضمن رؤية المسؤولين فى الدولتين.
وحتى لا نبقى رهينة خطاب إعلامى نسْعى للتحرر من أغلاله، فإن البيان المشترك للرئيسين السيسى وتبون يعتبر منقذًا لنا من تحليلات السياسيين والمراقبين والإعلاميين، التى ركزت- خلال الزيارة- على علاقة الدولتين من منظور العلاقات «البَيْنِيَّة» بينهما، والعبور إلى العلاقة «البَعْدِيَّة» لتحقيق العلاقات المشتركة، وإن ذهبت فى التحليل إلى محاولة تطويع البَعْدِى ليغدو بيْنِيًّا.
من غير المعروف بعد، كيفية تناول علاقات البلدين بدول الجوار، كل منهما على حِدَة، ولا الطريق المؤدية إلى الخروج من مآزق كبرى ومستفحلة فى تلك الدول التى تؤثر على الجزائر ومصر بشكل مباشر، ومع ذلك فإن نتائج الاجتماعات سواء على مستوى الرئيسين، أو الفريقين، تَشِى باتفاق حول القضايا المشتركة بين الدولتين، أو القضايا الأخرى التى تمثل أولويات لدى كل منهما، بغض النظر عن أيهما أكثر مصلحة، فى انتظار خروج تلك الاتفاقات من مجال التنظير إلى التطبيق العملى، ربما يُمَكِّنُهما ذلك من تجاوز «خلافات تكتيكية» سابقة حول قضايا متعددة فى علاقتهما البَعْدية، أطالت من عمر الأزمة فى دول الجوار، وحَمَّلَتْهُما أعباء، أصبحت مع طول الوقت مثل أوزار الحرب.
والواقع أنه مهما كان الاجتهاد فى القضايا البَيْنِيَّة بين الدولتين، حتى لو أدى إلى الاختلاف أحيانًا، فإن العلاقة بين الدولتين ظلت مشدودة بحبال قوية لم تنقطع أبدًا، لكن الحمل الأكبر كان من العلاقات البَعْدِيَّة، ويقصد بها العلاقة مع دول الجوار، حيث النظر إليها من منظور خصوصية الأمن الوطنى أو على الأقل «سلطة الإشراف»، وأحسب أن هذه تشمل الملفات التالية: القضية الفلسطينية وتداعياتها، والشأن السودانى، والتغيرات فى تونس، والإرهاب فى دول الساحل والصحراء الكبرى، والأمن المائى مع إثيوبيا، والعلاقات الجزائرية- المغربية، وهذه جميعها علاقات بَعْدِيّة من زاوية الجغرافيا ومن واقع الخصوصية.
فى تجربة المشترك بين الجزائر ومصر، تبدو العلاقة البَيْنيَّة عميقة، وأغلب الخلافات بينهما- وهى قليلة- ذات صلة بالبعد القومى، لهذا فإن المطلوب اليوم تعميق العلاقات البعدية من خلال الحضور المشترك، وهو ما انتهى إليه البيان المشترك من خلال خطاب الرئيسين، إذْ انصب بالأساس على مزيد من تعميق الثقة بين البلدين، وطرح الاقتصاد باعتباره مدخلًا لأى علاقة تحمل طابع الاستدامة، دون نسيان أو تجاوز قضايا تفرض نفسها، منها من ذات بعد قومى مشترك للبلدين، مثل الأزمة الليبية، وأخرى تشملها مع كل العرب، كما الأمر بالنسبة للقضية الفلسطينية، وانعقاد جامعة الدول العربية، والأمن المائى العربى، وثالثة تتعلق بمشكلات القارة الإفريقية، وفى ذلك كله أمل فى أفق أرحب لعلاقة بين الدولتين، قد تنهى طغيان الذاتى عن الموضوعى، والقُطرى عن القومى، والسيطرة الآنية على صناعة القرارات فى الداخل من أطراف دولية كثيرة.