أكد رئيس الوزراء الدكتور محمد اشتية على التزام حكومته تجاه عائلات الشهداء، وذلك خلال كلمته التي ألقاها بمناسبة يوم الشهيد، أول من أمس.
وبذلك تواصل الحكومة الفلسطينية تحدي إسرائيل التي سبق لها ومنذ عدة سنوات أن واصلت الضغط المالي والسياسي على السلطة الفلسطينية في محاولة منها لدفعها للتنصل من التزاماتها المالية والمعنوية تجاه أسر الشهداء والأسرى المعتقلين في السجون الإسرائيلية.
وحقيقة الأمر أنه رغم أهمية الجانب المالي، برعاية أسر الشهداء والأسرى، والذين يعدون عشرات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، إلا أن الجانب الأهم في المسألة، له علاقة بالقيم الوطنية، وهذا واحد من مرابط الفرس في الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، حيث تحاول إسرائيل أن تزيف الحقيقة الواضحة كالشمس، وهي أنها دولة احتلال، وأن مقاومة الاحتلال واجب أخلاقي ومشروع عبر القانون الدولي، وإسرائيل ما زالت وبعد أكثر من نصف قرن من احتلالها لأرض دولة فلسطين، تظن بأن إجراءاتها الأمنية المترافقة مع سياسات التمييز العنصري والضغط والقهر، يمكن أن تمكنها من الأرض المحتلة، لذا فهي تقوم باغتيال الناشطين والمقاومين بدم بارد وتعتقل الآلاف وتزج بهم في السجون دون حتى إقرار من محاكمها الاحتلالية، وترفق كل ذلك بإجراءات العقاب الجماعي أو العقاب العائلي، من خلال هدم منازل عائلات المقاومين، وكذلك التضييق عليهم بكل السبل والأشكال، لتوجه رسالة كبح لكل من يفكر بالإقدام على فعل مقاوم، بأنه حين يستشهد أو يعتقل، فإن أبناءه وعائلته سيتشردون ويواجهون مستقبلاً بائساً.
وتحاول إسرائيل بكل السبل إطفاء جذوة المقاومة، وذلك من خلال إصدار الأحكام العالية جداً ضد كل فعل مقاوم مهما بدا سلمياً وغير عنيف، أو على أقل تقدير قليل العنف، فيما يصفه المحايدون من مراقبي حقوق الإنسان بأنه استخدام مفرط للقوة، وهي في حقيقة الأمر لا تقوم بسجن الآلاف فقط، بل هي تقوم بعزل وإحكام السيطرة على نحو ستة ملايين فلسطيني، ولعل نموذج غزة التي كانت قد انسحبت منها من جانب واحد العام 2005، وما زالت تحكم عليها قبضة السيطرة والإغلاق منذ ذلك الوقت خير دليل على ذلك، مع عدم إغفال إجراءاتها الفاشية ضد سكان القدس والخليل وكل مدن وقرى الضفة الغربية، حيث إن المواطن الفلسطيني تحت الاحتلال محروم من أبسط حقوقه المدنية في التنقل والعمل والسفر والأهم حقه في الحياة أولاً، وفي الحياة بحريّة ثانياً، وما إلى ذلك.
ولا تختلف إسرائيل ونحن نعيش العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين عن أي دولة احتلال استعمارية، وليس انتهاء بالاستعمار البريطاني والفرنسي والأميركي، الذي ولت حقبته منذ عقود.
وخلال أكثر من نصف قرن مضى ونتيحة الأفعال الاحتلالية التي تخللتها حروب إبادة جماعية، لم يخل بيت فلسطيني من وجود الشهداء والأسرى بين أفراده، لذا فإن قضية الشهداء والأسرى تعد قضية الفلسطينيين الوطنية الأولى، حيث تحتل المكانة العالية في قلوبهم وأرواحهم، ولا يمكن التخلي عنها ولا بأي شكل من الأشكال من قبلهم، ولعل حضور الشهداء من أبو عمار وأبو جهاد وأبو علي مصطفى وأحمد ياسين والشقاقي بذكراهم بين الناس حتى اليوم وحجم ما يكنّه الناس من حب لمروان البرغوثي وأحمد سعدات وغيرهما من الأسرى، دليل على ما نقول، ولهذا فإن قضية الأسرى والمعتقلين تظل واحدة من سمات الاحتلال، ولا يمكن التوصل إلى الحل السياسي دون إغلاقها، وربما لهذا السبب، فإن اتفاقات أوسلو من حيث إنها فشلت في إغلاق هذا الملف، ظلت تراوح مكانها، وانغلق الأفق أمامها، رغم كل المحاولات لجعلها قضية تبعث الثقة والأمل في الحل.
كذلك فإن معالجة قضية الأسرى بالتحديد، ما زالت نقطة فصل بين البرامج الوطنية، فالبرنامج السياسي كثيراً ما جعل منها بنداً للتداول في كل جولة تفاوضية، وكثيراً ما حاول أن يجعل من تبييض السجون مدخلاً للحل، في حين أن برنامج المقاومة المسلحة، يركز على التبادل من خلال اختطاف أسرى إسرائيليين، وحيث إن كلا الطريقين نجح نسبياً، لكن بقاء الاحتلال يبقي على حقل الاعتقال المباشر قائماً، فإسرائيل اتبعت سياسة الباب الموارب، بعد كل عملية إفراج عن أسرى فلسطينيين، سواء عند كل مرحلة انسحاب جزئي قامت بها، أو بعد كل عملية تبادل تمت بينها وبين حماس، فإن النجاح التام بإغلاق هذا الملف لن يكون إلا بإنهاء الاحتلال نفسه.
لكن الأسرى وهم يواجهون الاحتلال بشكل يومي ومباشر، وفي المساحة الضيقة، وجهاً لوجه، لم يستسلموا، بل سطروا ملاحم بطولية، لعل منها معارك الأمعاء الخاوية، وآخرها ما سطره الأسير الإداري البطل هشام أبو هواش، بمعركته التي تجاوزت مئة وأربعين يوماً متواصلة، وهنا ما يهمنا توضيحه، هو أن الالتفاف الوطني والشعبي حول المضربين عن الطعام من الأسرى، كان الرافعة التي أجبرت كل مرة الاحتلال على التراجع وتحقيق النصر الجزئي أو النصر بالنقاط، ذلك أن النصر النهائي يتحقق بإغلاق هذا الملف بشكل نهائي.
بتقديرنا كلما مر الوقت، ابتكر الشعب الفلسطيني الوسائل والأدوات الخلاقة في المقاومة، وهو حين تصدى لحرب المستوطنين في الفترة الأخيرة، شق طريق المقاومة السلمية، بتصدي المواطنين للدفاع عن قراهم بالإرباك الليلي وحرق الإطارات وما شابه ذلك، وها هو يجترح أمثولة التصدي للاعتقال الإداري، حين اعتصم أهالي شارع الشهداء في الخليل احتجاجاً على اعتقال الفتى مروان مفيد الشرباتي البالغ من العمر 16 عاماً فقط، أي أن الشعب الفلسطيني يتصدى لكل فعل احتلالي بشكل جماعي، وهذا هو عامل القوة ومفتاح النصر دائماً، أي الوحدة الشعبية وعدم السماح للاحتلال بالتفرد بأبناء الشعب الفلسطيني، أفراداً كانوا أو جماعات.
بمعنى أن تحويل ملف الاعتقال والأسر إلى ملف مقاوم، وإلى قضية وطنية دائماً، بتجاوز الموقف السياسي الذي لا غبار عليه، إلى حقل العمل المقاوم، بزج مؤسسات حقوق الإنسان، ونزول المواطنين للشارع للاحتجاج، والنشر الإعلامي لكل عملية اعتقال وتنكيل، حتى تتحول قضية الاعتقال إلى قضية رأي عام دولي، تترافق مع تحويل قضايا الاعتقال التعسفي للمحاكم الدولية، وملاحقة الاحتلال في كل فعل قهري مهما بدا قليل الأهمية، وعدم الاكتفاء برفع القضايا الكبرى في المحاكم الدولية، كما أن أفعال مقاومة، تحدث الفارق مع التراكم الكفاحي، إلى أن يتحقق النصر النهائي، وذلك بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرض وشعب دولة فلسطين، وحينها تغلق كل ملفات القهر والتميز ومصادرة حقوق الإنسان الفلسطيني في أرضه وحياته، ودون ذلك يبقى الاحتلال وتبقى المقاومة، بكل أشكالها.