آفة العقل السلفى أنه بحكم تكوينه عقل ماضوى، أى عقل يؤمن إيمانًا راسخًا بأن النموذج أو المَثَل الأعلى فى كل مناحى الحياة يكمن فى لحظة معينة من الماضى، هذه اللحظة لدى العقل السلفى هى المعيار الذى ينبغى أن يُقَاس عليه؛ ومن ثم فإن كل لحظة تبعدنا عن هذا الماضى هى بمثابة انحدار أو انحراف. تلك الآفة العقلية تعمل على تجميد مفهوم الزمان ذاته، ومن ثم تجميد فكرة التقدم والتطور؛ وهذا هو السبب ذاته فى أن العقل السلفى بطبيعته يكون غير قادر على الإبداع؛ لأن الإبداع بحكم طبيعته هو تجاوز دائم للمتوارث والمألوف.
ولهذا فلن تجد أى واحد من السلفيين يمكن وصفه بأنه مبدع حقيقى. وهذا يصدق أيضًا على الشخص الإخوانى الذى يشترك مع السلفى فى الالتزام بمبدأ السمع والطاعة لقادة أو أمراء الجماعة التى ينتميان إليها، وهو المبدأ الذى يعمل على وأد روح الاستقلالية والتمرد والتحرر اللازمة لكل إبداع.
ويا ليت السلفيين يفهمون حقيقة الماضى الذى يتشبثون به ويدعوننا إليه: فهم يختزلون الحضارة الإسلامية فى الدين، ويختزلون الدين فى بعض الآيات القرآنية وبعض الأحاديث الضعيفة، دونما إعمال للعقل فيها أو حتى محاولة تأويلها، متخذين بعض فقهاء السلفية المتطرفين مرجعًا لهم (وعلى رأسهم ابن تيمية)؛ بل إنهم يختزلون التعبير عن هذا التدين فى المظهر الذى كان عليه أسلافهم فى الماضى؛ فيقصرون الجلباب، ويطلقون اللحى، ويلبسون الطِرَاح التى تشبه تلك التى ترتديها النساء فى حياتنا الراهنة.
لا يفهم السلفيون أن ماضى الحضارة الإسلامية لا يكمن فى الدين، ولم يكن بسببه؛ وإنما يكمن فى فهم حقيقة الدين وتأويله باعتباره قوة روحية دافعة إلى إعمار الأرض من خلال الإبداع الإنسانى فى شتى مناحى الإبداع. يختزل السلفيون الدين فى بعض الآيات التى يرونها تحرض على القتل والتكفير، من دون تأويل لحقيقتها من خلال فهم السياق أو المناسبة التى نزلت فيها؛ فيكفرون الناس على كل كبيرة وصغيرة، ويستبيحون لذلك قتلهم، ناسين أو متناسين أن القرآن نفسه ينهى عن كل تكفير ويترك هذا الأمر لله وحده. والحقيقة أنه لا يمكن لأى دين أن يقوم على فكرة التكفير؛ لأن الأصل فى الدين هو الدعوة إلى الإيمان بقوة عليا تتجسد فيها كل القيم التى يمكن أن نفهمها وندين بها، وعلى رأسها المحبة والرحمة والعدالة وحب الخير والجمال.
وربما لهذا السبب نفسه نجد أن الشخص السلفى يكون غالبًا شخصًا كئيبًا عبوسًا متجهمًا على الأقل ظاهريًّا، وهو ما ينعكس بالضرورة فى تعامله مع أهله بأسلوب الأوامر والنواهى باعتباره يمتلك الحقيقة المطلقة التى يجب أن يؤمنوا بها، وذلك هو ما يُسمى «الدوجماطيقية الدينية». وعلى هذا النحو ذاته يكون موقف السلفى إزاء الآخرين المختلفين عنه فى الرأى أو الاعتقاد. ولكن لأن العقل السلفى عقل منفصم؛ فهذا التزمت الدينى الذى يعبر عن نفسه ظاهريًّا فى العبوس والتجهم، يقابله ميل عنيف نحو الاستغراق فى متع الحياة وملذاتها، إن لم يتحقق فى الواقع فإنه يظل هاجسًا مُلحِّا على مستوى الخيال والتمنى.
اقرأ/ي أيضاً: المقاومة الشعبية.. إنجازات أكثر وخسائر أقل
يتجلى الفهم الماضوى لمفهوم الزمان فى عقل السلفى، باعتباره رفضًا للحاضر والمستقبل معًا: فالحاضر يتبدى له باستمرار باعتباره انحرافًا عن الماضى الأصيل والبهيج أو- على الأقل- ابتعادًا عنه. كما أن المستقبل يتم اختزاله باعتباره مجرد لحظة خلاص من الحاضر وتطلعًا إلى عالم أُخروى؛ ولهذا فإن عقله يصور له المستقبل باعتباره صورة بهيجة مليئة بالملذات وحور العين والولدان المخلدين وغير ذلك من المباهج المفتقرة فى الحياة؛ وهذا المستقبل المثالى المفتقد فى الحاضر هو ما ينبغى الذود عنه بالغالى والنفيس؛ وهذا أيضًا هو ما يفسر لنا حالات التفجير الانتحارى لدى بعض الشباب السلفيين الذين تشربوا الاعتقاد فى الأفكار السلفية، فتراهم يفعلون ذلك من أجل أفكار وهمية لا يؤمن بها حقًّا شيوخهم الذين غرسوا هذه الأفكار فى نفوسهم. وربما يفسر لنا هذا نفسه السبب فى أن شيوخ السلفية المعاصرين لا يؤمنون حقًّا بما يلقنونه لتلاميذهم السُّذج من تعاليم.
يفتقر العقل السلفى إلى القدرة على التأويل الذى يقوم على الفهم ويستند إلى روح التساؤل والحوار. ولهذا السبب؛ ينفر العقل السلفى من تأويل آيات القرآن بالسعى إلى فهم مقاصدها وسياقاتها الزمانية. ولهذا أيضًا يبغض السلفيون المتصوفة، سواء على مستوى الفكر الذى نجده فى التصوف الفلسفى، أو على مستوى الممارسات الصوفية ذاتها.
من هنا يمكن أن نفهم لماذا يتأصل التطرف الفكرى وتكفير الآخرين، ومن ثم الإرهاب ذاته، فى بنية العقل السلفى. يشيع ذلك فى كل عقل سلفى، ولكن شيوخ السلفية الأوائل يشكلون المرجعية الحقيقية لشيوع الروح السلفية التكفيرية، وعلى رأسهم ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب (اللذان يستحق كل منهما تخصيص مقال منفرد له).
ولهذا، فإننا ينبغى أن نتخلى عن التصور الشائع عن السلفيين باعتبارهم أقل خطرًا من الإخوان المسلمين، بافتراض أنهم يؤمنون بعدم الخروج على الحكام باعتبارهم أولى الأمر، فهذا التصور خاطئ تمامًا؛ لأنهم على استعداد دائمًا لأن ينقلبوا رأسًا على عقب بتكفير الحكام والدول والشعوب نفسها.