حملت الأيام الماضية أنباء دعوتين لفعاليتين مهمتين، الأولى هي دعوة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية لاجتماع المجلس المركزي الفلسطيني في موعد أقصاه مطلع العام المقبل، والثانية الدعوة والاستعدادات الجارية على قدم وساق لعقد المؤتمر الثامن لحركة فتح في آذار القادم.

اللافت في دعوة المجلس المركزي هو القول بأنها تأتي لترتيب الأوضاع الداخلية، والحديث عن تعزيز قدرة المؤسسات الفلسطينية، ووحدة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن ما يجدر الانتباه له أن المجلس المركزي، وهو أعلى هيئة للشعب الفلسطيني بين دورتي انعقاد المجلس الوطني، لم يجتمع منذ ثلاث سنوات عجاف. فآخر مرة انعقد فيها كانت في تشرين الأول 2018، وخلال هذه الفترة الطويلة مرّت مياه كثيرة من تحت الجسور، حيث تبدل الحكم في إسرائيل وفي الولايات المتحدة الأميركية، وجرت أربع دورات انتخابية في إسرائيل فذهب نتنياهو وجاءت حكومة بينيت- لابيد، ووقعت مواجهات شهر أيار وهبة القدس وباب العامود والشيخ جراح، وشُنّت الحرب الرابعة على قطاع غزة المعروفة بمعركة سيف القدس، كما انتكس الحوار الوطني الفلسطيني، وتعطلت الانتخابات التشريعية، التي كان مقررا إجراؤها في أيار الماضي، ودخل الوضع الداخلي الفلسطيني في سلسلة متلاحقة من الأزمات والتي كان أبرزها تصفية الناشط نزار بنات وردّات الفعل التي تبعت ذلك.

في الظروف الطبيعية، يكون انتظام أعمال الهيئات والمؤسسات الوطنية والحركية أمرا صحّيا ومطلوبا، وغالبا ما يساهم في استنهاض دور الهيئات وتجديد دمائها، وتكون المؤتمرات الدورية فرصة للمراجعة وتصويب المسار، كما أنها تُشعر المسؤولين التنفيذيين بأنهم في دائرة المراقبة والمحاسبة، وبالتالي يفرض انتظام الهيئات قيودا نظامية وأدبية على تفرّد المسؤولين، فتحدّ من خروجهم عن توجيهات الهيئات وتكليفاتها لهم.

ولكن في حالتنا الفلسطينية الراهنة، لا يبدو الأمر على هذا النحو الحميد، فدعوة الهيئات المركزية للانعقاد تجري عادة بطريقة استخدامية، ويجري استدعاؤها عند الحاجة، وتفتقد اجتماعاتها إلى دقة المراجعة وشدة المحاسبة، بل تكون أقرب إلى الجانب الاحتفالي البروتوكولي، وغالبا ما تجري المصادقة على توجهات القيادة، أو بكلمات أخرى: تجري الاستجابة الوافية للطلب أو الأغراض التي دعيت هذه الهيئات للانعقاد من أجلها.

ينطبق ما سلف على الشق التنظيمي والإجرائي، أما بالنسبة للمضمون السياسي لهذه الاجتماعات فالكل يعرف ان المشكلة الرئيسية ليست داخل صفوف فتح لكي يحلها المؤتمر الثامن العتيد، مع أن القضايا التنظيمية تتراكم في العادة وتحتاج إلى مراجعات دورية، ولا هي بين حركة فتح وباقي فصائل منظمة التحرير ليبتّ فيها المجلس المركزي، دون التقليل من المشاكل الجدية التي تستحق التوقف والمعالجة الشاملة والجذرية، وآخرها قطع مخصصات ثلاثة فصائل تاريخية.

فمشكلتنا الكبرى هي نتيجة الانقسام المستمر والآخذ في التعمق منذ العام 2007، وهو بالتحديد بين الحركتين الكُبرَيَين فتح وحماس، والذي يتجسد في حالة الانفصال بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ووجود حكومتين وسلطتين ونظامين. وما نجم عن ذلك من استفادة إسرائيل القصوى من هذا الانقسام، وسعيها المحموم لإدامته بوصفه خيارا استراتيجيا يقود إلى تفتيت الكيانية الفلسطينية وتجزئتها، وإضعاف شرعية التمثيل الفلسطيني، وبالتالي شرعية المطالبة بالحقوق الوطنية. وهذه الحالة الشاذّة هي التي تغري إسرائيل وتشجعها على التعامل مع الفلسطينيين كمجموعات سكانية وليس كشعب، كما أنها تضعف تمسك المجتمع الدولي بما يسمى “حل الدولتين”، أو ما نسميه نحن بحقنا في إقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس، على أرضنا المحتلة.

من الجيد إذن أن تنعقد هيئاتنا الوطنية والفصائلية، وأن تدبّ الحياة في أوصالها، ولكن من دون أن يكون ذلك على حساب الاستحقاقات الوطنية وفي مقدمتها قضية المصالحة وإنهاء الانقسام التي ينبغي أن تتقدم على كل ما عداها من قضايا وأن تستاثر بالجهد الأكبر للهيئات والقيادات. صحيح أن الحوار الذي كان مقررا أن تنعقد جلساته برعاية القاهرة في منتصف حزيران الماضي، فشل من دون الاتفاق حتى على جدول أعماله ولا على موعد بديل، وكان على الأطراف المشاركة والمعنية أن تجعل من هذا الفشل حافزا لبذل جهود مضاعفة لاستئناف الحوار والبحث عن مداخل إنجاحه وما اكثرها، لا أن تتصرف على راحتها وكأن الزمن مفتوح على سعته، فكانت كما يقول مثلنا الشعبي عن الشخص المتكاسل عن أداء الصلاة، والذي وجد ابواب الجامع موصدة، فقال مبررا كسله وتقاعسه ” جاءت منك يا هالجامع”.

الأحداث المحلية والإقليمية والعالمية تجري بوتائر متسارعة جدا، وإذا لم نواكبها بالسرعة المطلوبة والكفاءة المناسبة، فسوف نتخلف عن اللحاق بما يجري، وتتراجع قدرتنا على التأثير، فالمشروع الإسرائيلي الاحتلالي لتدمير حل الدولتين وفرض صيغة “إسرائيل الكبرى”، وهي صيغة مستحدثة من نظام التمييز العنصري (الأبارتهايد) لم يتوقف لحظة واحدة على الرغم من تبدّل الحكم، أما العالم فقلوب معظم أطرافه معنا لكن سيوفهم ومصالحهم واستثماراتهم وتجارتهم ومناوراتهم العسكرية المشتركة مع إسرائيل، وهم يرثون لحالنا ولكنهم لا يفعلون أكثر من أن يذرفوا دموع التماسيح، طالما أننا لا نقوم بواجباتنا الملحّة لإعادة فرض قضيتنا على أجندة العالم.