ليكون الحديث على بينة، سأبدأ بتعريف الخطاب الدينى وهو: التكلم فى الدين بحكم ما يفهمه أحدهم من قراءاته ودراساته أو ما ينقله أحدهم عن غيره، وبالتالى فالخطاب الدينى «ليس دينًا» وإنما كلام عن الدين أو فى الدين، وقد اعتبر الكثيرون أن الخطاب الدينى المغلوط هو السبب فى نشأة الجماعات الإسلامية المتطرفة، التى خرجت من رحمها بعض التيارات الدينية التنظيمية التى تنتهج العنف فى تعاملاتها، وعليه اتفق كثير من المتابعين على أن تحديث الخطاب قد يغير أو يعالج بعض الأخطاء التى أدت إلى هذا، وقد يؤدى إلى سد قنوات الانضمام إلى هذه الجماعات التنظيمية، مما يُعد حلًّا دون اللجوء إلى العنف أو أى إجراءات حكومية أخرى.
وهى الرؤية التى تستند إلى حيثيات غامضة لأن الخطاب كما أسلفت ليس دينًا وإنما كلام عن الدين، وبالتالى يحتمل كثيرًا من أوجه النظر، وبالتالى ليس هناك خطاب مغلوط ولا خطاب خاطئ، والنقطة الثانية أن هذه ليست جماعات دينية، وإنما تنظيمات سياسية أو عسكرية لا يمكن التعامل معها إلا بالطرق الأمنية والعسكرية لمواجهتها، أما التعامل الفكرى بخطاب مضاد يُفترض أنه الصواب فذلك من قبيل الغفلة عن الحقيقة الدامغة، ولا يؤدى إلا إلى تضييع الوقت والمجهود، اللذين تضيع معهما الأرواح أيضًا.
إن التعامل مع مجريات الأمور يجب أن يكون بما يجب عليه التعامل فى الدول المتحضرة، فطريقة الحشد التى تقوم على هذا النوع من الخطاب، الذى يتّسم بالمغالاة ليلقى إعجاب المُوالين ويحظى بانجذاب الغافلين، لا يمكن أن يكون الرد عليها بخطاب دينى حكومى لا يحمل أى نوع من الجاذبية ولا يحظى بأى مصداقية، وإنما يجب الرد على ذلك النوع من الحشد بتطبيق القانون ووقف تلك الدعوات بأسانيد قانونية تحدد مرجعية الخطاب واستناده حتى لا يكون الخطاب مرسلًا عفو الخاطر أو مُوجَّها دون سند، ليكون المحدد هو ما إن كان الخطاب قانونيًّا أو غير قانونى دون الدخول فى متاهات الفقهاء وغياهب الكتب، وتتساوى فى ذلك الدعوات إلى قتل النفس والآخرين ووعود الآخرة وصفات الحور وعددهن وطرق إتيانهن.
إن انتهاج طريق غير القانون لا يُدخلنا فى غياهب هذه المهاترات فقط، ولكنه بدلًا من وجود جانب واحد من مُردِّدى ذلك الخطاب فإنه يؤدى إلى خلق طبقة جديدة من فقهاء السلطة، الذين يطوعون الخطاب حسبما يشير الحاكم، وهى مسألة لا تزيد المتاهة إلا تعقيدًا ولا تزيد الهُوَّة إلا عمقًا، بحيث يلقى حول المجتمع شَرَك من فقهاء الإرهاب وفقهاء السلطان- معًا- بحيث لا يمكن الفكاك منه إلا بانتصار أحدهما على الآخر، وهو ما يحدث نتيجة جاذبية الإرهابيين مرة أو نتيجة سيطرة الحكومة على الإعلام والسلطة التنفيذية مرة.
إن الخطاب الدينى ليس دينًا حتى نتعامل معه بتلك الخشية أو القداسة، وبدلًا من محاولة تجديد ما هو قديم بطبعه فمن الأَوْلَى تحديد ذلك الخطاب فى استخدامه ومن ثَمَّ فى تأثيره، أما النقطة الأخيرة فإنه إذا كانت حرية التديُّن أو التمعُّن فى التديُّن مكفولة فذلك لا يعنى خلق زعامات دينية سواء من قِبَل التنظيمات الدينية السياسية أو من قِبَل الحكومة فى عصر تحدد فيه القيادات على أساس القانون والدستور وتسمى فيه الرئاسات بحكم التنظيمات السياسية والإدارية للدولة وليس بحسب الزى والسمت والهيئة أو بحسب التراتبية فى التعليم الدينى، وإذا كان تشكيل أى جماعة دينية سواء عسكرية أو سلمية أمرًا غير قانونى، فبالتالى محاولة خلق نجوم أو زعامات دينية أمر غير قانونى أيضًا، والأهم أن الدين علاقة بين الإنسان وربه ينظمها الورع الداخلى والتصرفات الاجتماعية، وليس رضا قائد أو إمام ولا كثافة لحية أو طول جلابية.