ترددت الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى منذ سنوات، ومع أن لها سوابق منذ بداية عصر النهضة فى القرن التاسع عشر، واعتقاد عدد من المصلحين الإسلاميين أن واحدا من أسباب تخلف العرب والمسلمين عموما عن الغرب هو انتشار مفاهيم مغلوطة عن الإسلام، وأن خروج المسلمين من السيطرة الغربية وتحقيق نهضتهم هما رهن بتصحيح هذه المفاهيم المغلوطة، تجدد هذا الحديث مع انتشار حركات مسلحة ترفع راية الإسلام، وتناضل ضد حكوماتها وبعض مواطنيها ومواطناتها، بل تشن الحرب على غير المسلمين أينما وجدتهم، داخل الدول الإسلامية أو خارجها.

ومع أن قادة هذه الحركات، باستثناء طالبان، ليسوا من خريجى المؤسسات الإسلامية التعليمية، بل هم خريجو ما يسمى بالتعليم المدنى فى بلادهم. إلا أن هذه المؤسسات، وفى مقدمتها الأزهر الشريف بجامعته ومعاهده ومدارسه، قد تعرضت للهجوم الشديد من أنصار الدعوة لتجديد الخطاب الإسلامى، بدعوى أن بعض المقررات التى تدرس فيها تدعو إلى مقاطعة غير المسلمين، أو لا تحض على إعمال العقل فى شئون الدنيا والدين. ولم يلق هذا الهجوم قبولا من جانب قيادات المؤسسات الدينية الإسلامية ومنها الأزهر، والتى أكدت على أن الاجتهاد فى شئون الدين مستمر، وأن رسالة الإسلام الصحيح كما يدعو لها الأزهر تحض على التعاون مع أصحاب الديانات الأخرى، وخصوصا فى الأمور التى تهم البشرية كلها، وهو ما أكدته لقاءات شيخ الأزهر مع بابا روما. ومع ذلك لا يبدو أن أنصار الدعوة لتجديد الخطاب الدينى قد اقتنعوا بذلك، وإن كانت حدة هجومهم على شيخ الأزهر قد هدأت عن ذى قبل.

وقد كان الدكتور حسن حنفى الذى رحل عن عالمنا منذ أيام هو فى طليعة من تناولوا هذه المسألة، وطرحها فى إطار دعوته إلى تجديد التراث، وهو القضية التى أنفق فى الدعوة لها جانبا كبيرا من عمره وعمله أستاذا للفلسفة ورئيسا لقسمها سنوات طويلة فى جامعة القاهرة ورئيسا للجمعية الفلسفية المصرية، وفى العديد من كتاباته، وخصوصا فى المجلدات الخمس التى تحمل عنوان: من العقيدة إلى الثورة، والتى لخصها فى كتابه «التراث والتجديد». وقد كانت الآراء التى طرحها فى هذه الكتابات جدية فى تناولها لقضية التراث، على النحو الذى أغضب المدافعين عن التراث، والذين وصل بهم الأمر إلى تكفيره بل والتهديد باغتياله. ومع ذلك فلاشك فى وجاهة طرحه لقضية التراث، وثراء مناقشته لها، وإمكانية توجه الداعين لتجديد التراث وجهة جديدة فى السعى لهذه الغاية.
 

 موقف حسن حنفى من التراث 

على عكس ما يذهب إليه أغلب المدافعين عن التراث والذين يحصرونه فى القرآن والسنة. فإن حسن حنفى لا يرى فى النصوص المتوارثة جيلا بعد جيل سوى الجانب المادى من التراث، وهو يهتم بدرجة أكبر بالموروث الواقعى، أى بالأفكار والقيم والمعتقدات السائدة بين المواطنين والمواطنات فى أى بلد، فهى التى تحرك سلوكهم وتكمن وراء نظرتهم للحياة. وإذا كان هناك من يعتقد أن التراث هو عقبة أمام التقدم، فإن العقبة لا توجد فى النصوص التى تتعدد تفسيراتها داخل الجيل الواحد، بل وربما يتفاوت فهمها بين جيل وآخر. الجدير بالاهتمام هو تلك الأفكار والمعتقدات والتصورات التى تسود بين الناس فى الحاضر والتى تحدد كيف يواجهون حاضرهم ويصنعون مستقبلهم. ولا يساوى حسن حنفى بين الموروث بهذا المعنى والدين، فالدين بحسب فهم الناس له هو عنصر واحد من عناصر ذلك الموروث، ولكن هناك عناصر أخرى داخله لا علاقة لها به. ومثل هذا الأمر مفهوم تماما فى مصر وإن كان الخطاب عن التراث يتجاهله. أليس الاحتفال بشم النسيم واحدا من تلك التقاليد الموروثة عن مصر الفرعونية، ولا يجد المسلمون والمسلمات فى مصر أو غالبيتهم الساحقة ما يحول بينهم والانغماس فى كل طقوسه، كما أن زيارة قبور الأقارب فى الأعياد وهى عادة شائعة فى بعض محافظات مصر لا علاقة لها بالإسلام، ولكن تبدأ طقوس الأعياد لدى الأسر المسلمة فى مصر بزيارة قبور الموتى والترحم عليهم، وهى أيضا موروث تكيف مع دخول الإسلام مصر حتى يبدو للبعض كما لو كان واحدا من تعاليم الإسلام. ونفس الأمر ينطبق على التبرك بمن يسمون أولياء الله الصالحين لدى المسلمين، أو التبرك بالقديسين لدى المسيحيين، والذين يشاركهم كثير من المسلمين فى ذلك.

أليست كل هذه موروثات وكلها تقريبا لا علاقة لها بالنصوص المقدسة المتوارثة، ولكنها هى الموروث الحى الجدير بالاهتمام من وجهة نظر الراحل حسن حنفى.

بعض عناصر مثل هذا الموروث الحى هى بالفعل عقبة أمام التقدم. النهضة الحقيقية تقتضى التمسك بالعلم، والإخلاص فى العمل، وعدم التواكل على ما قد يأتى به الغيب، وقبول الحق فى الاختلاف، والمساواة بين الرجل والمرأة، واحترام الوقت ولكن بعض القيم المتوارثة تشجع على الإيمان بالخرافات واللجوء إلى السحر، وانتظار لحظة الحظ السعيد، وتصور الاختلاف فى الرأى على أنه ابتعاد عن روح المودة بين الأقارب والأصدقاء، وضرورة خضوع المرأة الكامل للرجل، وعدم التشدد فى الالتزام بالمواعيد.

ولكن ما هو السبيل لتجديد هذا الموروث الحى. يرفض حسن حنفى منهجين فيما يسمى الإصلاح. أولهما يدعو ببساطة للعودة إلى الماضى والتمسك بما كان عليه السلف الصالح. الزمان قد تغير من وجهة نظره، وما كان صالحا فى الماضى على كل قيمته، ليس بالضرورة صالحا للحاضر، كما أن تقليد الدول المتقدمة لا يفيد كذلك، فلكل دولة ظروفها، كما أن كل حضارة لها قيمها المتوافقة معها، ومن ثم فإن نقل القيم والمؤسسات دون أن يكون هناك الإطار الثقافى المواكب سوف يكون بمثابة استزراع نباتات فى غير التربة المناسبة لها.

ومن الواضح أيضا أن الاستسلام للموروث بكل عناصره سوف يبقى طريق النهضة بعيد المنال، فلا يمكن تحقيق النهضة فى رأيه إلا إذا كانت هناك الثقافة الممهدة لها والمشجعة على تواصلها. ينبغى الانتقاء بين عناصر الموروث والحرص على اتباعها إذا كانت تتفق مع ضرورات النهضة وتنحية تلك العناصر التى تعوق الانتقال إلى طريق النهضة والسير عليه.

فما هو الطريق الثالث الذى يكفل النجاح فى عملية الانتقاء هذه. يطرح فيلسوفنا الراحل ثلاث شروط للشروع فى تجديد التراث، أولها هو تجديد اللغة، فهو يرى أن المفاهيم الأساسية قد اكتسبت بحكم السيطرة الثقافية الغربية أو الركود الفكرى فى الدول الإسلامية معانى مغايرة لدلالاتها الأصلية، ويطرح فى مقدمتها مفاهيم الإيمان والإلحاد والعلمانية. هو يرى أن المقصود بالإيمان فى الثقافات الغربية يساوى الإلحاد فى الثقافات العربية، وعلى العكس مفهوم الإلحاد فى الثقافة الغربية هو معادل لمفهوم الإيمان الصحيح فى الثقافة العربية، كما أن للعلمانية دلالاتها فى الثقافة الغربية ولكن هذه الدلالات سقطت على الثقافة العربية، والشرط الثانى الذى يطرحه هو بالفعل جديد ومثير، فهو يدعو إلى اكتشاف مستويات جديدة من التحليل ويرفض المناهج الغربية فى دراسة التراث مثل المناهج التاريخية والتحليلية والإسقاطية والسببية بدعوى أنها كلها لا تعترف بالوحى كمقدمة للحقيقة، ويقترح بديلا عن ذلك أن يكون الشعور هو الأساس فى ترجيح أى تفسير للتراث، ويضرب أمثلة على ذلك من التراث ذاته، والشرط الأخير هو إدراك التباين فى السياق الثقافى بين الدول الغربية والدول الإسلامية. ولا يكتفى حنفى بوضع الشروط ولكنه يخصص جانبا كبيرا من كتاباته لشرح كيف يمكن إعادة بناء جميع العلوم سواء كانت علوم أصول الدين أو العلوم الإنسانية والطبيعية على أساس المنهج الذى يقترحه.

ولكن من الذى سيقوم بهذه المهام الشاقة التى تقتضى إصلاح اللغة وتأسيس العلوم على أساس الشعور وأخذ الإطار الثقافى فى الحسبان. المدهش أن إجابة حسن حنفى على هذا السؤال هى أن يكون الحزب الثورى هو المنوط به القيام بهذا التجديد للتراث أو على الأقل الإشراف عليه. ربما كان فيلسوفنا قد تأثر بكتابات المفكر الإيطالى أنطونيو جرامشى الذى تصور أن الحزب الثورى هو القادر على تحدى هيمنة البورجوازية بتوليد هيمنة مضادة. لا يجب ألا ننسى أن هذا المفكر الداعى لأن يكون الوحى هو أساس بناء المعرفة كان عضوا بارزا فى حزب اليسار منذ السبعينيات وهو حزب التجمع الوطنى التقدمى. ولا أظن أن حزب التجمع، فى ماضيه أو حاضره، متحمس أو مؤهل لتولى هذه المهمة التى يوكلها حنفى لحزب ثورى.

                             ماذا يفيد تحليل حنفى فى مشروع تجديد الخطاب الدينى

لقيت أفكار حنفى اهتماما فى العديد من الأوساط، ولكن اختلف معه مفكرون من اتجاهات مختلفة. اختلف معه المرحوم الدكتور محمد عابد الجابرى المغربى وقومى الاتجاه، واختلف معه المرحوم محمود أمين العالم ماركسى الفكر والموقف، كما انتقده الإسلاميون، ولكنهم ذهبوا إلى تكفيره والدعوة إلى اغتياله لأنه أخرج النصوص المقدسة من إطار التراث الجدير بالاهتمام، وكان حنفى على النقيض من ذلك موضع الترحيب داخل أوساط الليبراليين واليساريين وهم الذين غلبوا بين من شيعوه إلى مصيره الأخير إلى جانب عدد من القيادات الجامعية ومنهم رئيس جامعة القاهرة وعدد من زملائه السابقين.

يقدر الكثير منا مساهمة الراحل فى تفسير الفلسفة الإسلامية وفى طرح مدخل لدراسة المجتمعات الغربية، ولكن يهم الحريصين والحريصات على نهضة الوطن توسيعه لمفهوم الموروث بحيث يشمل جميع القيم والمعتقدات وتصورات العالم التى عبرت الأجيال والعصور، والتى لا يمثل الدين سوى أحد عناصرها، وبصرف النظر عما إذا كان إصلاح هذه المنظومة شرطا للنهضة أم مواكبا لها، فلاشك أن الكثير من هذه القيم والمعتقدات يعوق التقدم سواء كانت تلك القيم المتعلقة بالعلم أو العمل أو التخطيط للمستقبل أو الفصل بين صلة القرابة والوظيفة العامة هذا هو الموروث الجدير بالاهتمام.

ولعل التجارب التاريخية قد تجاوزت النظر إلى أى حزب، حتى ولو كان حزبا ثوريا بمعايير أستاذ الفلسفة الذى غادرنا، على أنه القادر على الإشراف على هذه المهمة الشاقة، أى تجديد التراث.

ولكن لا يمكن تجاهل أن الفاعل الضرورى فى هذه المهمة ليس هو الحزب، ولكنه أجهزة الدولة، ليس من خلال قيامها بالوعظ والدعوة لتجديد الخطاب الدينى، ولكن من خلال تجسيدها لقيم النهضة: وهى الأخذ بالعلم فى رسم سياساتها وتنفيذها، التعويل على الجدارة والأهلية فى تولى الوظائف، وجعل نشر التعليم الصحيح لكل أبناء وبنات الشعب فى مقدمة أولوياتها، فضلا عن ضمان كرامة المواطنين والمواطنات، احترام حرية الرأى وقبول الاختلاف، وفتح كل نوافذ الحوار حول قيمنا الموروثة، وكيف تشجع على الشروع فى النهضة.