لا يمكن اعتبار زيارة غانتس المباغتة للرئيس أبو مازن في رام الله، والأولى منذ سنوات طويلة، وعلى هذا المستوى السياسي الرفيع بأنها معزولة عن الموقف الأميركي والداعي علناً إلى التقدم بمبادرات حُسن نية، أو مبادرات «بناء الثقة»، وعلى أن يقدم عليها الجانب الإسرائيلي، وليس غيره.
ولا يمكن كذلك اعتبار هذه الزيارة خارج نطاق ما تم الاتفاق عليه والتوافق بشأنه داخل الحكومة الإسرائيلية، بدليل أن نفتالي بينيت لم يعترض على الزيارة، وإنما اعترض على ما أسماه «خروج» غانتس عما كان متفقاً عليه في قضية ما، وليس في كل القضايا التي طرحت في لقاء الرئيس مع وزير «الدفاع» الإسرائيلي.
لا أعرف ما هي القضية التي أثارت حفيظة نفتالي بينبت، ولم يتسرب شيء مؤكد حولها، لا من جانبنا ولا من الجانب الآخر.
أما ان جاز لنا التخمين الى ان يتم الإفصاح عنها، حيث ستتبرع وستتولى هذا الأمر وسائل الإعلام الإسرائيلية وليس وسائل الإعلام الفلسطينية ـ مع كل أسف ـ فإن المرجع هنا هو ان بينيت شعر بأن غانتس قد طرح مع الرئيس أبو مازن إمكانية استئناف المفاوضات، او انه حاول «جس النبض الفلسطيني» على هذا الصعيد، وهو الأمر الذي اعتبره بينيت (خروجاً) عن دائرة المتوافق عليه داخل الحكومة الإسرائيلية.
المنطق يقول بأن «الخروج» الذي اتهم به بينيت وزير دفاعه لا يمكن ان يكون حول «التسهيلات» الجديدة لأن القرار بشأنها والعمل عليها مستحيل بدون اقرار الحكومة الاسرائيلية لها، وهو ما يعني ان هذه الحكومة باتت في وضع حرج، وأن اي تطور في مجال «استئناف» المفاوضات بين الجانبين يمكن ان يؤدي الى انفراطها او سقوطها السريع.
بينيت يطمح من خلال «التسهيلات» الى «حشر» العلاقة بين الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي في المجال الاقتصادي، كما يطمح في ان تشكل هذه التسهيلات دفعة أولى على طريق طويل من إجراءات «حسن النوايا وبناء الثقة» بهدف الوصول الى ما بات يُعرف على نطاق علني ومباشر بتقليص الصراع.
غانتس ولابيد ليس لديهما مشكلة هنا، وهما مع هذا التوجه لكنهم يفهمون بالمقابل ان هذه «التسهيلات» لن تجدي نفعاً إذا غاب البند السياسي بالكامل عن جدول الأعمال، واذا لم يكن هناك افق سياسي معين يضع هذه التسهيلات في سياق سيؤدي فعلاً إلى «تقليص الصراع»، وليس فقط اللعب على أوتار الاحتياجات الفلسطينية و»الاستثمار» في الضائقة الاقتصادية سواءً في الضفة او القطاع.
واضح هنا ان الإدارة الأميركية المنشغلة هذه الأيام بالتعقيدات التي رافقت الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وبكيفيات إدارة العلاقة مع مطيّتهم الجديدة هناك، وبمستقبل آليات الحفاظ على استراتيجيات فاعلة في مواجهة الصين وروسيا وإيران، إضافة الى تنظيم «القاعدة» و»داعش» وغيرها من المنظمات الإرهابية... واضح ان هذه الإدارة ليست بصدد «الانخراط» المباشر في هوامش الصراع بين المتاهات الأيديولوجية لنفتالي بينيت وخصوصا في أحزاب «الوسط» و»اليسار» في إسرائيل ولا هي بصدد متابعة «الصغائر» الإسرائيلية والمناكفات التي تولدت عن هشاشة وضعف بنية الائتلاف الحاكم في إسرائيل.
الولايات المتحدة اذا كانت منشغلة بهذا الصراع فهي مشغولة قبل كل شيء بتخفيف التوتر وتخفيض الاحتقان، أملاً في أن يؤدي كل ذلك إلى الولوج العملي السلس والى حل يقوم على أساسه حل «متفاوض عليه»، وليس الى حل يقطع الطريق على كل حل، او الى حل جاهز وبشروط مسبقة.
صحيح ان أحزاب «الوسط» و»اليسار» في إسرائيل لا ترى فرصة لاستئناف المفاوضات بين الجانب الإسرائيلي والجانب الفلسطيني الآن، وفي ظل هذه المرحلة او الفترة من عمر هذه الحكومة، لكن الصحيح ايضاً هو ان هذه الاحزاب لم تعد واثقة من بقاء هذه الحكومة، ولا هي متأكدة من دعم الادارة الاميركية لهذا البقاء، كما انها لم تعد تخشى من سقوطها بعد ان تحولت مسألة اعادة توحيد كل التيار اليميني القومي والديني الى مسألة شبه مستحيلة.
اكثر جهة تخشى على نفسها من سقوط هذه الحكومة هي الجهة التي يمثلها بينيت لأنه يعرف ويعي جيداً انه لم يعد محل «ثقة» من احد، لا من «اليمين» ولا من «الوسط»، ولا حتى من بعض أوساط المستوطنين انفسهم.
هذا هو ما يفسر استنجاده بالأحزاب الدينية من جديد، ومناشدته لها الانضمام الى هذه الحكومة قبل سقوطها ان كان بسبب «الخلاف» حول آليات ومضمون العلاقة مع الجانب الفلسطيني، او بسبب قدرة المعارضة على إسقاطها.
القمة الثلاثية التي تعقد اليوم في القاهرة بين مصر والاردن وفلسطين ليست بعيدة عن كل ما ذهبنا إليه.
الادارة الاميركية اوحت الى كل من يهمه الأمر بأنها ترغب باستئناف المفاوضات في اسرع وقت ممكن، وبعثت بالرسالة تلو الرسالة بأنها (أي الإدارة الأميركية) ترغب بأن ترى الجانب الإسرائيلي وهو يقدم على خطوات «جدية» باتجاه «بناء الثقة» وتحسين الحالة الاقتصادية في الضفة، وفي التخفيف الفعلي للحصار على قطاع غزة، وعلى اعتبار القيادة الرسمية الفلسطينية هي «الشريك» الوحيد لإسرائيل في هذه المفاوضات، وبالفعل فإن ما تم الاتفاق عليه بين الرئيس أبو مازن وبين غانتس ليس هامشياً ولا شكلياً على الاطلاق حتى وان حاولت بعض الفصائل ان تقلل من شأن المسائل التي تم الاتفاق عليها.
المهم هنا ان الادارة الاميركية تعمل على الجبهتين:
جبهة بناء الثقة وتحسين الاوضاع الاقتصادية، وجبهة التمهيد السياسي لاستئناف المفاوضات.
على الجهة الأولى جاءت الخطوات كبيرة مقارنة مع اي خطوات سابقة على هذا الصعيد، وعلى مدى أكثر من عقد ونصف العقد، في حين ان عمل هذه الإدارة على الجهة الثانية يبدو نشطاً للغاية ان كان لجهة التنسيق بين الأطراف العربية المؤثرة والمنخرطة في الملف الفلسطيني (مصر والأردن) او كان لجهة الدور الذي يقوم به غانتس بصورة لافتة للانتباه، او حتى الزيارات المرتقبة لبينيت نفسه لكل من مصر والأردن.
وخلاصة الأمر هنا ان المنطقة تشهد نشاطاً «محموماً» على الجبهتين، وتبدو كل الاطراف منهمكة في ترتيب اوراقها انتظارا لتحولات مرتقبة قادمة قد تداهم الجميع دون استثناء.
لافت للانتباه بصورة محزنة هنا التصريحات التي ادلى بها الدكتور موسى ابو مرزوق والتي بدت ـ لي ـ محاولة إقحام حركة «حماس» في هذا النشاط المتسارع والمحموم عندما قال أن الحركة مستعدة للتفاوض مع إسرائيل لأسباب «شرعية»، ولأسباب «عملية»!
المحزن ان المفاوضات إذا كانت شرعية وكانت ضرورية او ممكنة لأسباب عملية فلماذا كل هذا التحايل على الواقع، ولماذا لا يتم الاتفاق والتوافق مع القيادة الرسمية؟.
ألا يدل ذلك بكل وضوح ان المسألة كلها لا تمت للاختلافات السياسية والبرنامجية بأي صلة، وإن كل ما في الأمر هو المصالح الخاصة والحزبية، وان لا علاقة البتة بين المسائل الوطنية وهذه الخلافات؟
واضح الآن ان الأردن ومصر وفلسطين ستتقدم بمبادرة واحدة وموحدة في الأمم المتحدة والتي من شأنها الربط المحكم ما بين الجانب السياسي والاقتصادي، وحرمان بينيت من «سلاح» تجريد الاقتصادي عن السياسي، وحرمان «اليمين» الإسرائيلي من المناورة في ميدان الانقسام، أو المناورة في هوامش الخلافات العربية.
ثمة حراك سياسي نشط في المنطقة يحمل بعض سمات روح المبادرة، وهو الأمر الذي افتقدناه لفترة طويلة جداً من الوقت.
بقلم: عبد المجيد سويلم