لا يحتاج معارضو الرئيس عباس أدلة من داخل الخطاب كي يرفضوه، أو يهاجموه، يكفي أن الرئيس عباس ذاته هو الذي ألقاه، وهو المصنف لديهم في القائمة السوداء، التي يلقون عليها كل ما يُنسب إلى المسيرة السياسية من فشل..! فالمسألة لا تعدو كونها مجرد صورة من صور المناكفات التي تعج بها الساحة الفلسطينية، والتي تتجاوز بكثير حدود تلك التي تعرفها الأمم الراقية، والتي بدورها تتناكف سياسياً، لكن دون تحطيم، ودون أن تتجاوز حدود الاعتراف بالآخر، ودون أن تصل إلى حدود التخوين، والشيطنة، هذا الحد الذي وصلته حالتنا الفلسطينية، وتجاوزته، حتى باتت تهمة التخوين تجري على ألسنة صبية لا يعرفون من السياسة سوى اسمها، ولربما ظن بعضهم أنك كلما خوّنت أكثر، كلما بدوت كمناضل مشتبك أكثر..!
لكن بغض النظر عن تلك الترّهات التي ترافق كل خطاب سياسي فلسطيني رسمي، فإن النقد الموضوعي لأي سلوك سياسي سيقى مقبولاً، ومفيداً، حتى لو كان قاسياً بعض الشيء، المهم أن ينطلق من مبدأ الحرص على الحقيقة الفلسطينية، والحرص على تقويم آدائها، بما يُحسّن من مستوى فعلها، أما التحطيم، والتخوين، ورفض كل ما ينتجه المخالفون لمجرد أنهم مخالفون، فهذا مما يجعل الجهة المستهدفة تنظر بعين الاستخفاف، والتجاهل لما يقوله الناقدون.
قبل الدخول في عرض أهم ما احتواه الخطاب الأخير للرئيس عباس هناك سؤال- أو أسئلة- لا بد من طرحها:
- هل يقترح علينا أحد مثلاً أن نقاطع المؤسسات الدولية، بحجة أنها مؤسسات غير عادلة، وبحجة أن إسرائيل لا تلقي بالاً لهذه المؤسسات؟
- وإن ذهبنا، فما هو أقصى ما نستطيع قوله هناك؟ هل نستطيع مثلاً أن نطالب العالم بأن يعمل معنا لإزالة إسرائيل عسكرياً؟
اقرأ/ي أيضاً: جولة حماس الخارجية .. هل تحقق أهدافها؟
- ولمن يقترح على الخطاب أن يتضمن إلغاءً تاماً لكل الاتفاقيات مع إسرائيل، والتي تعنى بشكل آلي إلغاء الأسس التي بنيت عليها السلطة، ومن ثم إلغاء السلطة ذاتها، فهل له أن يشرح لنا البدائل الحقيقية العملية القادرة على إدارة دفة الحياة الفلسطينية ما بعد السلطة؟
ترفض العاطفة الفلسطينية- إن أحسنا الظن- الاعتراف بأن حجم الخصم أكبر من أن نواجهه بحفنة من الشعارات التي رددناها لأكثر من مئة سنة، وأن لمعركتنا مع هذا الكيان ميادين متعددة، أهمها البقاء في الأرض وتعزيزه، ولن نستطيع ذلك بدون سلطة، أو بتركنا للمغامرات غير المحسوبة التي دفعنا، ولا زلنا لها أثماناً كبيرة.
أما عن الخطاب فإنه- من وجهة نظري- قال كل ما يمكن قوله، وفيما يلي سأستعرض بعض أهم محطاته:
- لقد ذكّر الخطاب بأصل المشكلة، وجذورها حينما أعاد التأكيد على كارثة التهجير عام 48م وبأن إسرائيل حاولت- ولا زالت- ممارسة التطهير العرقي للفلسطينين، حينما دمرت مئات القرى، وهجرت مئات الآلاف من الفلسطينيين، وهي بذلك دولة عنصرية، وأنها لن تستطيع الإفلات من جرائمها.
اتهام المجتمع الدولي بالعجز في فرض الرؤية الدولية على إسرائيل، وخاصة تلك الدول التي لا تزال ترفض الاعتراف بأن إسرائيل دولة احتلال، وتمييز عنصري.
استنكر المطالبات التي توجهها بعض الجهات الدولية للفلسطينيين من دون إسرائيل لتبرير المناهج الفلسطينية، فيما تمارس إسرائيل التحريض عبر كل منصاتها الإعلامية، والثقافية.
- رفض فكرة التخلي عن المسئولية عن الأسرى واعتبر ذلك ظلماً تاريخياً.
- تحذير الدول التي ما تزال تدعم إسرائيل بأنها بدعمها هذا لن تأتي بالسلام.
- أكد على مرجعية تمثيل منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب للفلسطيني، وعلى مبدأ الشراكة الوطنية عبر الإصرار على إجراء الانتخابات التي تم تأجيلها بسبب منعها في القدس من طرف إسرائيل، وطالب العالم بالمساعدة على إجرائها في القدس للشروع فوراً في تنفيذها.
- رفض فكرة المشاريع الاقتصادية التي تسعى بعض الجهات الدولية الداعمة لإسرائيل تقديمها كبديل عن الحل السياسي.
- أكد على غياب شريك حقيقي للسلام في إسرائيل التي لم يعد قادتها يتحرجون من الحديث العلني عن رفض فكرة حل الدولتين التي يتبناها العالم، ومؤسساته الدولية.
- فتح الباب أمام البدائل التي على أسرائيل أن تختار بينها وبين الاستجابة للقرارات الدولية، كسحب الاعتراف بإسرائيل الذي تساءل عن جدواه في حالة أصرار إسرائيل على عدم الوفاء باستحقاقات السلام، كما هدد بالتوجه إلى المحاكم الدولية، أو العودة إلى قرار التقسيم الذي منح الفلسطينيين 44% من فلسطين، أو الدولة الواحدة، حيث لن يقبل العالم، ولا الفلسطينيون أن تواصل إسرائيل سيطرتها على كل الأرض من دون الاعتراف بحقوق الفلسطينيين السياسية.
- رفض الربط بين نقد إسرائيل والصهيونية، وبين معاداة السامية.
ثم ختم بالقول: هذهِ أرضُنا، وهذهِ قدسُنا، وهذه هويتُنا الفلسطينية، سندافعُ عنها إلى أنْ يرحلَ المحتلُ عنها، لأنَّ المستقبلَ لنا، والأمنَ والسلامَ لنْ يكُونَ لكُمْ وحَدّكُم. حلو عنا.
لا أعرف بالضبط إن كان لأي فلسطيني آخر أن يقدم خطاباً أكثر شمولاً لقضايانا السياسية، وأكثر تأكيداً على حقوقنا الممكنة، لكن ما أعرفه أن الخطاب جاء في سياق السياسة التي يحتاجها الفلسطينيون، والتي تنقض الرواية الإسرائيلية التي تزعم أن إسرائيل تسعى إلى السلام، وأنها الدولة الأكثر ديمقراطية، وعدالة، واحتراماً لحقوق الإنسان في المنطقة.