أمواجٌ متلاطمة كالرصاص القاتل.. الماء بدأ يملئ المركب من كل زاوية.. يركض يحيى يمينًا ويسارًا .. تسلل الخوف والرعب إلى جسده .. نصرالله سقط في المياه الباردة .. فجأة فتحت الأسماك أفواهها لتلتقط رزقها .. هذا المشهد المرعب ليس من أفلام هوليود بل أصبح واقعًا حقيقيًا، وهناك وسط البحر بين تركيا واليونان انتهت حكاية بعض الهاربين من جحيم الفقر في قطاع غزة.

أحد عشر شابًا من قطاع غزة فقدوا الأمل في استمرار الحياة نتيجة الفقر والعوز والبطالة والأمراض التي نهشت أجساد آبائهم وأمهاتهم دون قدرة على علاجهم، هذه الأسباب وغيرها الكثير كانت كفيلة لتدفع الشباب للبحث عن مصدرِ للرزق لرسم البسمة والفرحة على وجوه عائلاتهم.

"يحيى اياد بربخ" (26 عامًا) أحد الناجين من سفينة الموت التي غرقت وسط البحر بين اليونان وتركيا بداية شهر نوفمبر 2021 وراح ضحيتها عددًا من الشبان بينهم صديقه نصرالله الفرا.

"عَمِلَ يحيى في قطاع غزة بكافة الأعمال المتاحة (سائق - بائع ملابس – حلاق – ميكانيكي –داخل مكتب لجوازات السفر والحج والعمرة) لم يترك طريقًا لتحسين دخله إلا وقد سلكه؛ لكن الاجر الذين كان يتلقاه لم يكن كافيًا ما أدى لزيادة الديون وتراكمها عليها"، وفقًا لوالدته.

والدة يحيى قالت لموقع "أركان" : "كنت أعارض هجرة يحيى بشكل كبير؛ لكن حالة الفقر والوجع والألم دفعني لقبول هجرته اضافة لسماع الوعود من نجلها بأنه سيسحبها وعائلته إلى أوروبا بعد استقراره".

اقرأ/ي أيضاً: هجرة الفلسطينيين لتركيا طلعت "فنكوش"

واشارت إلى أن يحيى يعيش في "غرفة ومطبخ وحمام" داخل بيت العائلة ولم يكن يعرف أين يستضيف أصدقائه  فكان يسعى دومًا لشراء قطعة أرض ويبني له بيتًا ويشعر بالراحة كغيره من الشباب المقتدرين.

"حالة الفقر وعدم وجود فرصة عمل تُحقق له هدفه، دفعته للتفكير الجاد للهجرة إلى أوروبا، وهنا اضطر لاستدانة بعضًا من المال ما زاد الديون المتراكمة عليه أملًا في سدادها فور استقراره في أوروبا" وفقًا لوالدته.

ودَّع يحيى طفليه "اياد" (ثلاث سنوات) و"غادة" (سنة ونصف) بعدما ضاقت به الحياة في قطاع غزة باحثًا عن مصدر رزق ليعيد رسم الحياة والبهجة لعائلته حيث تربى يتيمًا وتحمل المسؤولية وهو صغير في العمر.

والدة يحيى تروي تفاصيل ليلة سقوط سفينة الموت في البحر كما أخبرها نجلها الذي يعاني من صدمة قوية نتيجة المشهد المرعب الذي عاشه على مدار ساعتين كاملتين.

صعد يحيى إلى المركب في ساعات المساء بدت الأمواج ضعيفة والرياح ساكنة والمسافة التي سيقطعها في البحر قليلة، وعندما وصل المركب منتصف البحر حل ظلام دامس واشتدت الرياح فجأة وهاجت الأمواج وانقلب المركب رأسًا على عقب وتساقط الشباب في المياه الباردة.

مكث يحيى ساعتين في الظلام الدامس والمياه الباردة ورائحة الدماء التي سالت من الشباب بعدما أكلتها الأسماك، وبدأ يحيى من شدة الخوف يسبح يمينًا ويسارًا دون أن يدرك إلى أين يتجه؛ تجمدت عضلاته واضطر للتوقف عن التجديف والنوم على ظهره مدة ربع ساعة قبل وصول الشرطة التركية لإنقاذه.

"يحيى" استفاق من غيبوبته في المستشفى ليجد نفسه حيًا يرزق، لكن الأسماك كانت قد أحدثت جروح عدة ظاهرة في ظهره وجروح لا يراها أحد في قلبه لا يمكن علاجها في يوم أو شهر أو سنين.

والدة يحيى أكدت لموقع "اركان" أن نجلها قرر العودة إلى قطاع غزة والموت بين أهله وأحبائه وبين الفقر والجوع بدلًا من الموت في بلاد الغربة وفي مياه البحر الهائج، مشيرة إلى أن غالبية أصدقاء نجلها الذين نجوا رفضوا العودة وقرروا المجازفة مرة أخرى.

أما نصرالله الفرا الذي أكلته الأسماك فقد هاجر من قطاع غزة قبل شهر على رحلت الموت وفقًا لوالدته التي لم تستطع اكمال حديثها من شدة البكاء وضيق النفس الذي تعيشه منذ أن سمعت بأن الاسماك أكلت نجلها.

"أبو أدهم" (47 عامًا) متزوج ولديه ولد أدهم جاء بعض 12 عامًا من الزواج، يعمل في أحد المقاصف بالمدارس الحكومية ووضعه المادي كغيره من الشبان صعبٌ جدًا لا سيما وأنه يصرف بعضًا من المال على والديه اللذان يعانيان من أمراض عدة فوالدته تعاني من ارتفاع الضغط وارتفاع السكر والقلب، أما والده يعاني من الكِبَر ومرض القلب.

حالة من الصدمة والفزع أصابت عائلة الفرا بعد تداول مقطع صوتي لأحد الناجين وهو يبكي من هول المشهد المرعب: "أكلنا السمك يما، السمك أكل أبوأدهم يما، النا ساعتين في البحر والسمك أكلنا يما".

أثارت تلك الكلمات حالة من الصدمة والرعب في قلوب العائلة التي ناشدت كافة المسؤولين للبحث عن ابنها في مياه البحر.

سفير دولة فلسطين لدى تركيا فايد مصطفى، أكد بأن الجهات التركية عثرت على جثة المواطن نصر الله الفرا متوفيا على أحد شواطئ تركيا، قائلًا: "السفارة تتواصل مع اسرته وذويه، وهي على استعداد تام لعمل كل ما يلزم لنقل جثمانه الى أرض الوطن اذا قررت أسرته ذلك".

ووفقًا لأخر الإحصائيات التي أجراها "الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء" أكدت أنه على رغم المخاطرة التي تحيط بالهجرة غير الشرعية، إلّا أن ما نسبته 37% من الشبان في قطاع غزة (15 - 29 عاماً) لديهم الرغبة في الهجرة إلى الخارج. 

وهو واقعٌ دفع "الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني" إلى إطلاق مبادرة شعبية لتوعية الشباب والعائلات بمخاطر الهجرة غير الشرعية. 

ومن الجدير ذكره، هنا، أن نسبة الفقر ارتفعت خلال السنوات العشر الأخيرة إلى 80%، فيما بلغت نسبة الأسر التي تعيش حالة من الفقر المدقع - تعتاش على 2دولار يومياً - 35% .

من جهته أكد المختص في الشأن الاقتصادي حامد جاد أن هناك جملة من الأسباب الرئيسية التي تدفع الشباب بالهجرة من أبرزها عدم وجود فرص عمل للشباب في قطاع غزة في ظل ارتفاع معدل البطالة والفقر لمعدلات غير مسبوقة.

وأوضح جاد في تصريح خاص لموقع "أركان" أن عدم وجود أفق في قطاع غزة منذ بداية الانقسام والحصار، وعدم وجود جهات ذات علاقة مسؤولة تتبنى ميزانية تشغيلية لاستيعاب الشباب وانعدام فرص التوظيف في المؤسسات الحكومية دفع الشباب ايضًا إلى الهروب للبحث عن فرصة عمل خارج قطاع غزة.

وقال: "هناك أسباب أخرى من بينها رغبة الشباب لتوفير فرص عمل ليساعدوا من خلالها ذويهم في ظل الفقر والبطالة التي تنهش ابناء قطاع غزة"، لافتًا إلى أن الشباب وجدوا برحلة السفر الى الخارج رغم المخاطر الكبيرة المترتبة على التهريب لأوروبا فرصة للحياة ليس على المستوى الوظيفي فقط انما على المستوى الحياة الانسانية مقارنة بالحياة في قطاع غزة.

الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أصدرت بيانًا أشارت فيه إلى أن "هذه الفاجعة دافعها هو فقدان الأمل والمستقبل الذي تسبّبت فيه سنوات طويلة من العدوان والحصار الصهيوني والانقسام، أدّت إلى تفاقم الأوضاع المعيشية وتزايد معدّلات البطالة، وخصوصاً بين آلاف الشباب والخرّيجين ما أدى إلى فقدانهم الأمل، والرغبة في محاولة البحث عن طوق نجاة لهم في الخارج من هذا الوضع الكارثي".
 
وطالبت الجبهة، القوى الوطنية كافة، بتحمّل "واجباتها الوطنية والديمقراطية والإنسانية والمعيشية، وخلق حلول عملية تفتح أبواب الأمل والعمل والحياة لهؤلاء الشباب بدلاً من الهجرة".