عرفت صائب عريقات لعشرين عاماً تقريباً، وربما كان هو الأقرب إليّ من بين السياسيين والمناضلين الفلسطينيين الذين توطدت صلتي بهم عبر سنوات العمل الدبلوماسي، سواء في الخارجية المصرية مسؤولاً عن ملف عملية السلام لعدة سنوات، أو من خلال منصبي الحالي في الجامعة العربية.
وتجاوزت العلاقة مع صائب حدود العمل إلى الصداقة الإنسانية العميقة، فقد كان الرجل طاقة إنسانية هائلة، ينفذ بسهولة إلى القلب ويُشعرك على الفور بالألفة والثقة، ويعرف كل من اقترب منه إلى أي مدى هو قادرٌ على نسج علاقات إنسانية حقيقية وممتدة، وليس مجرد صلاتٍ عملية أو وظيفية. واليوم، وبعد مرور عامٍ على رحيله المُفجع، فإنني كثيراً ما افتقد إلى أحاديثه ودفئه الإنساني على الصعيد الشخصي، والذي كان يتواصل أحياناً بشكل يومي.
وصائب مزيج نادر بين المناضل والدبلوماسي والسياسي. فالصفة الغالبة في المناضل هي الإيمان الشديد بالقضية والثبات على المبدأ دون اهتزاز أو ميل.. أما السياسي والدبلوماسي فأدواته هي المناورة والقدرة على قراءة المواقف وتعديلها إذا لزم الأمر.. ويبدو أن الأمرين متناقضان، غير أن هذين العاملين تقاطعا في شخصية صائب، وتضافرا في مسيرته المهنية والوطنية على نحو نادر جعل من الرجل نسيج وحدة تقريباً.
لقد رأيت صائب في أصعب المواقف وأدقها، قادراً على الإمساك بهذا التوازن الدقيق بين المناضل والسياسي، فلا يطغى جانبٌ منهما على الآخر.
وأتذكر كيف كان يخوض المفاوضات بروح المناضل الذي لا تغيب الصورة الكبيرة أبداً عن ذهنه، ولا يساوم في قضاياه الأساسية.. ويفاوض أيضاً بعقلية السياسي الذي يعرف كيف «يلعب» أوراقه على النحو الأفضل لكي يضع خصمه في الزاوية. وأقول، إنني تعلمتُ من خلال صداقتي معه الكثير والكثير عن «الصنعة» الدبلوماسية، وكيفية إدارة عملية تفاوضية مع خصم صعب ومجهز.. فضلاً عن كونه خصماً لا يسعى إلى حل، بل يتبع سياسة الإنهاك وكسب الوقت.
ومن نافل القول، إن صائب كان يعرف ملفاته جيداً، ولا أظن أن سياسياً أو دبلوماسياً أو خبيراً، من فلسطين أو من أي مكان آخر، يعرف دقائق العملية السلمية وتفاصيلها كما عرفها صائب وخبرها عبر أكثر من نصف قرن، عن ظهر قلب.. وربما كان صائب من أوائل من سعوا إلى التعامل مع ملف المفاوضات تعاملاً عملياً وعلمياً..
بالدراسة والعمل المؤسسي والاستفادة من الخبرات الفلسطينية، وغير الفلسطينية، في ملفات تحتاج إلى هذه الخبرات مثل القانون والمياه والاقتصاد وعلم الآثار القديمة وغيرها. وقد كان يقول دائماً، إن المعركة مع إسرائيل هي أيضاً سباقٌ في العقل والتنظيم والقدرة على إدارة عملية تفاوضية ناجحة.. وأظن أن الخصوم أنفسهم شهدوا له بقدراته الاستثنائية في هذا الصدد. فلم يكن أبداً ارتجالياً، أو يعتمد على الإنشائيات البلاغية أو العمل الخطابي.. بل كان يدرس قضاياه جيداً، وكأنه دبلوماسي ناشئ.. ويحفظ تفاصيلها، ويشجع معاونيه على القيام بالأمر ذاته... لذلك فإن خسارتنا وخسارة القضية الفلسطينية فيه كبيرة جداً.. واليوم، ونحن نحيي ذكراه العطرة، فإننا على ثقة من أن جيلاً جديداً من المفاوضين والمناضلين الفلسطينيين قد تعلم في مدرسة صائب، وتشرب منهجه.. ليحمل الراية من بعده ذوداً عن القضية التي عاش ومات من أجلها.