منذ اليوم الأول للحرب تجري عملية استقطاب حادة بين غرب داعم ومنحاز لأوكرانيا، وبين روسيا البوتينية. ولا يوجد إلا أقلية ضد القطبين ومع الشعب الأوكراني والشعوب التي تعرضت وتتعرض للهجوم من قبل القطبين. للأسف هذه الأقلية وأنا واحد منها غير معترف بسلامة موقفها، فالمؤيدون لبوتين يحسبونها على الغرب، والمؤيدون للغرب يحسبونها على بوتين. فقط لا غير مسموح باستقطاب ضمن ثنائية بوتين بايدن خيارين أحلاهما مر.
هذا النوع من الاستقطاب ليس جديداً، فقد سبق أن جرى التعامل مع الربيع العربي بثنائية نظام مستبد ديكتاتوري من جهة/ وإسلام سياسي مؤدلج ومدعوم خارجياً من جهة أخرى. الاستقطاب «الإجباري» بين قطبي الثنائية شطب حق الشعوب ومحاولاتها لانتزاع حريتها وأبسط حقوقها الأساسية كقطب ثالث شقت مجراه الانتفاضات الشعبية العربية، ولكن سرعان ما جرى تدمير ذلك المجرى من قبل القطبين المتصارعين.
ما أسهل استحضار مواقف وسياسات وممارسات تدفع الناس الى رفض الاستقطاب مع الغرب كقطب مهيمن نصب نفسه شرطياً على العالم. وسياساته العدوانية كحصار العراق الذي أدى الى موت عشرات الآلاف جوعاً فضلاً عن تدمير بنيته التحتية واحتلاله لاحقاً، وموقف الغرب من الربيع العربي الذي سمح بكل أنواع التدخلات ما عدا ذلك النوع من التدخلات- الذي من المفترض ان يكون من مؤسسة الأمم المتحدة- الذي يقيد قمع الشعوب ويؤمن الحماية لها ويتعامل مع ملايين اللاجئين بمستوى إنساني يتفق وميثاق الأمم المتحدة ومنظومة الاتفاقات والمعاهدات، والموقف الأشد سوءاً والذي بلغ حد الإفلاس السياسي والأخلاقي من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي سمح باستمرار الاحتلال الإسرائيلي، وضم القدس وشطب اللاجئين، ووسم كل من يعارض بقاء الاحتلال والنهب الاستيطاني بالعداء للسامية.
اقرأ/ي أيضاً: فلسطين والنظام العالمي الجديد!
ولا يغيب عن المشهد سياسة الغرب المتبعة منذ نهاية الحرب الباردة التي ساهمت في تهديد السلم والاستقرار في أوروبا، وكان من شأن سياسة عقلانية أن تقطع الطريق على الحرب، وتساهم في وقفها والاقتصار على الأساليب السلمية لحل الصراعات والخلافات، نعم، كان من شأن سياسة أخرى عدم المقامرة بوجود واستقرار وأمن 44 مليون أوكراني. يعرف الأوربيون جيداً أن إذلال ألمانيا عبر معاهدة فرساي عام 1919 بعد الحرب العالمية الأولى ساهم في صعود النازية، ويعلم العرب أن إذلال دول الخليج لصدام حسين ساهم في قراره الأحمق باحتلال الكويت، وراهناً تساهم سياسة الغرب ما بعد انتهاء الحرب الباردة في مغامرة بوتين العسكرية في القرم وجورجيا والشيشان وبيلاروسيا وصولاً الى أوكرانيا.
مقابل ذلك، ما أسهل استحضار مواقف وسياسات وممارسات روسيا البوتينية التي من شأنها رفض الاستقطاب مع هذا القطب. لا يكفي التناقض مع القطب الغربي إلى حجز مقعد مع القطب الروسي الصاعد، برغم حاجة الشعوب والدول المستقلة او التي ترغب في أن تكون مستقلة، إلى وجود قطب ثان وثالث يكسر الاحتكار الأميركي الغربي للهيمنة والانحياز للاستعمار الزائف المتناقض مع مصالح الشعوب. ولكن ما الذي سيفعله القطب الروسي لدعم الشعوب؟ النماذج التي قدمها تحديداً في سورية وموقفه من الشعوب المنتفضة او الشعوب التي تختار الديمقراطية وتقرير المصير لا يقل سوءاً عن الموقف الأميركي، بل هو أسوأ منه لجهة إصراره على استدامة أنظمة مستبدة ديكتاتورية وفرضها على شعوبها، فقد استخدمت روسيا الفيتو 12 مرة حفاظاً على النظام السوري بمواصفاته النافرة. إزاء ذلك يجوز القول إن واشنطن في كل المراحل وضعت إسرائيل المستعمرة ونظام الابارتهايد الحاكم فوق القانون، وأن روسيا البوتينية وضعت بشار الأسد /سورية وقديروف /الشيشان ولوكاشينكو/ بيلاروسيا وأمثالهم فوق القانون. روسيا البوتينية المندمجة في الأسواق والنظام المالي العالمي والتي تمخضت عن أوليغارشية روسية متوحشة كما النيوليبرالية المتوحشة، لا يهمها غير مصالحها الأنانية ولا تعترف بالمبادئ. روسيا تغض النظر بأريحية عن أنظمة ترتكب جرائم وانتهاكات لطالما انها تبرم صفقات اقتصادية وأمنية معها، والغرب يتناسى شعاراته حول القانون والحريات لطالما ان الأموال تتدفق.
لهذه الأسباب تفتقد الشعوب مبررات الانحياز لغرب الناتو أو لروسيا البوتينية. للأسف الأنظمة تقرر والشعوب لا تقرر، لكنها تستطيع أن تؤثر في القرار إذا مارست الاحتجاجات ونظمت الضغوط، تستطيع ان تؤثر أكثر بتدخل من المثقفين الملتزمين بمنظومة قيم التحرر وفي المركز منها حقوق الإنسان، والقادرين على تلمس مصلحة السواد الأعظم من شعوبهم.
في الجانب التطبيقي او العملي، يغفل البعض القواعد الأساسية التي تسمح بتحديد موقع هذا البلد او ذاك من الصراع، بالذهاب الى عناصر فرعية كالقول إن النظام الأوكراني فاسد ومواقفه متطرفة وإنها ساهمت في تأجيج الصراع، وهذا صحيح، لكنه لا يبرر السكوت أو تهميش فعل الغزو وتهجير الملايين وتدمير البنية التحتية، ولا يكفي القول من البديهي إننا مع الشعب الأوكراني. إن إعادة تعريف رئيس أوكرانيا زيلينسكي كونه يحمل الجنسية الإسرائيلية وبمواقفه من العدوان على غزة الذي يرى في إسرائيل ضحية وحيدة. وإعادة التذكير بمجرمة حرب أوكرانية إسرائيلية خدمت في الجيش الإسرائيلي برتبة ضابط وتفاخرت بقتل طفل فلسطيني. هذه المواقف محط احتقار وإدانة ولا يمكن إلا أن تكون كذلك، لكن استعراضها كان له هدف آخر هو تبهيت فكرة تضامن شعب تحت الاحتلال مع شعب يتعرض للاحتلال على قواعد أخلاقية وإنسانية. الرئيس الأوكراني انحاز لإسرائيل وهو مدان، ولكن رؤساء أميركا وأوروبا وروسيا والصين قالوا أثناء عدوان أيار الماضي على غزة «إنه من حق إسرائيل ان تدافع عن شعبها»، ولم يُقرنوا ذلك بحق المقاومة الفلسطينية في الدفاع عن شعبها.
الضابطة الأوكرانية مجرمة حرب ينبغي ان تلاحقها العدالة، ولكن كم ضابطاً وجندياً إسرائيلياً من اصل روسي وأميركي ارتكبوا جرائم بحق الشعب الفلسطيني. عن تظهير العنصر الأوكراني له وظيفة الانحياز لدولة روسيا التي تحتل بلداً آخر، وأقلها الامتناع عن التضامن مع شعب يتعرض للموت والدمار والتشريد.
شكراً لحركة المقاطعة - بي دي اس- التي قطعت قول كل خطيب عندما قالت في بيانها: نحن الفلسطينيون ندرك مليّاً ما تعنيه الحرب وويلاتها.
وكما الغالبية المطلقة للبشرية التي تعيش في جنوب الكرة الأرضية، تعارض قيادة حركة المقاطعة (BDS) وأوسع ائتلاف في المجتمع المدني الفلسطيني، الحروب، سواء العدوان الروسي غير القانوني في أوكرانيا اليوم، الذي ينتهك ميثاق الأمم المتحدة بغض النظر عن استفزازات حلف الناتو المستمرة، أو الحروب العديدة غير القانونية وغير الأخلاقية التي قادتها الولايات المتحدة (أو الناتو) خلال العقود الماضية والتي أدّت إلى تدمير دول بأكملها وقتل الملايين، لقد آن الأوان للاستجابة العالمية للنداء الفلسطيني لمقاطعة إسرائيل (BDS) مساهمة في تحرّرنا الذي طال انتظاره.