حتى جامعة الدول العربية سارعت لإدانة القرار الإسرائيلي الذي اعتبر ستا من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، ضمن منظمات الإرهاب، وفي الحقيقة، فإن الجامعة العربية، وكثيراً من الجهات والمنظمات والأحزاب سارعت لإدانة واستنكار القرار الإسرائيلي، لسببين أساسيين، أولهما هو أن الإدارة الأميركية سارعت على الفور إلى إعلان استغرابها من إقدام وزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس على اتخاذ ذلك القرار، وثانيهما هو مدى السفور الإسرائيلي متمثلاً في هذا القرار، الذي يستهدف منظمات حقوق إنسان معظم تمويلها والدعم الذي تتلقاه يأتي أصلاً من دول الغرب الديمقراطية، ومنها الولايات المتحدة، كما أن هذه المنظمات ليست منظمات سياسية، بل هي منظمات تعمل في حقل القانون الدولي.
أكثر من ذلك، فإن الغرب الديمقراطي ومنه الولايات المتحدة، الذين يتغنون ليل نهار بحقوق الإنسان، ويعتبرون أن منظمات المجتمع المدني، بقدر ما تكافح من أجل إرساء دعائم القانون الدولي والدفاع عن حقوق الإنسان المنتهكة، ليس من قبل الاحتلال الإسرائيلي وحسب، بل ومن قبل أنظمة الحكم في بلادها أيضاً، هي البديل لأنظمة حكم الفرد المستبد في العالم العربي، وبديل نظام الحكم الشمولي، القائم على أساس الحزب الواحد، بصرف النظر عن أيديولوجية هذا الحزب، إن كانت إسلامية أو قومية أو اشتراكية أو شيوعية.
اقرأ/ي أيضاً: بالفيديو أركان تكشف عدد الأسرى من الفصائل والأجهزة الأمنية
لكن إسرائيل طال الزمان أو قصر، ستثبت للعالم كله، أنها ليست دولة ديمقراطية ولا ما يحزنون، أو على أقل تقدير، فإن احتلالها لأرض الشعب الفلسطيني، وقمع الشعب الفلسطيني، ومصادرة حقوقه الأساسية، تقوض ديمقراطيتها، وتجعل منها في أحسن أحوالها ديمقراطية عنصرية، كما كان حال المجتمع الأثيني، ذلك أنه لا تستوي الديمقراطية من حيث هي تساوٍ بين البشر واحتلال شعب لشعب آخر، وكما قال كارل ماركس يوما، فإنه لا حرية لشعب يستعبد شعبا آخر، وهذا ما يتأكد، كلما أصرت إسرائيل على الاستمرار في احتلالها لأرض وشعب دولة فلسطين.
ولأن الشعب الفلسطيني قد نضج كثيراً، خلال مقارعته للاحتلال وللدولة ذات المظهر أو الشكل الديمقراطي، والمحتوى أو الجوهر العنصري، الإرهابي، فإنه ومنذ عقود، لم يكتفِ في مقاومته بالاعتماد على الفصائل والأحزاب السياسية، سواء منها من تقاوم وفق ما شرعته لها الأمم المتحدة، بالكفاح المسلح، أو من خلال الانتفاضة الشعبية، أي تلك القوى التي تقاوم بشكل سلمي، فقد استند الشعب الفلسطيني إلى كل مواطنيه، بمن فيهم المحامون والحقوقيون، والنشطاء المدنيون، الذين دافعوا عن حقوق المعتقلين وقللوا من حدة إرهاب مؤسسة السجون الإسرائيلية، التي لا تحترم لا جنيف ولا القانون الدولي، وهكذا فإن غانتس ومؤسسات وزارة الحرب الإسرائيلية، يدركون أن ازدياد خبرة الشعب الفلسطيني في مقارعة الاحتلال على جبهة القانون الدولي، ستعني أن يكون لمؤسسات المجتمع المدني دور أساسي متزايد ومتصاعد، وصولا إلى النجاح في دحر الاحتلال بقوة القانون الدولي، الذي لابد أن يحل بديلا عن قانون الاحتلال العسكري والفاشي، ليس فقط في تعامله مع المعتقلين والأسرى فقط، بل ومع كل حقوق المواطنين والأفراد الفلسطينيين في أرضهم ومنازلهم، وحقهم في الدفاع عن حريتهم في إبداء الرأي وتقرير المصير، وحرية التنقل والعمل وكل ما إلى ذلك.
والحقيقة أيضا، أن هذه ما هي إلا حزمة أولى، بالتأكيد ما كان غانتس سيتوقف عندها، لو أنها مرت، وهو ظن بأن ربطه بين المؤسسات المدنية الست والجبهة الشعبية، سيدفع الغرب إلى الإحجام عن معارضة قراره الاحتلالي، كذلك لابد من ملاحظة أن أهم تلك المؤسسات تعمل في مجال الدفاع عن المعتقلين، خاصة "الضمير" و"الحق"، ويدرك غانتس أن ملف المعتقلين هو بعد القدس من أكثر الملفات التي تثير حساسية الشعب الفلسطيني، وتوحده، ولعل ذلك القرار قد جاء ليرفع من معنويات إسرائيل التي تعرضت لضربة في الصميم بعد الهروب العظيم لأسرى جلبوع مطلع الشهر الماضي، ثم انكسار مؤسسة السجون في مواجهة معركة الأمعاء الخاوية الأخيرة التي خاضها معتقلو الجهاد الإسلامي.
لكن ذلك قد لا يكفي - بتقديرنا - في تفسير ما أقدم عليه غانتس بشكل مفاجئ، فهو في الوقت الذي يبدو فيه، أنه يتصرف كوزير فوق الحكومة الإسرائيلية، يحاول أن يظهر كيميني وأمني في الوقت نفسه، ليكون بديلا عن نفتالي بينيت وبنيامين نتنياهو معا، أي أنه يسعى لتحقيق طموح شخصي، كان قد أحبطه نتنياهو حين خدعه قبل نحو العامين، بفض الشراكة معه، وعدم الالتزام بالوصول إلى التناوب في رئاسة الوزراء، وهذا ما أكده في أكثر من محطة اتخذ فيها قراره دون إجماع أو حتى علم الحكومة متعددة الأحزاب، حين التقى الرئيس أبو مازن حين كان بينيت نفسه في واشنطن.
وهذا يظهر إلى أي حد هي حكومة بينيت غير موحدة، ويبدو أن انتظار إقرار الميزانية لا يؤجل المواجهة في الملفات الخلافية ومنها الملف الفلسطيني بكل بنوده، وفي مقدمتها ملف القنصلية الأميركية في القدس، بل يؤجل الخلافات بين الأحزاب الثمانية المكونة للحكومة، بما يعني أنها لن تستمر طويلا، وأن التناوب بين بينيت ويائير لابيد لن يتم على الأغلب، لذا فإن إسرائيل بانتظار رئيس حكومة آخر، يريد غانتس أن يكون هو، بعد أن يكون كل من نتنياهو وبينيت قد حطم أحدهما الآخر، في حين أن إسرائيل ليست مهيأة بعد لرئاسة غير يمينية، لا لابيد ولا اليسار.
وها هي الأخبار تأتي تباعا، وتشي بوجود خلافات داخل الائتلاف الحكومي في إسرائيل، ليس حول قرار غانتس الخاص بإغلاق المؤسسات المدنية الفلسطينية الست وحسب، ولكن أيضا فيما يخص إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية المحتلة، وكذلك ما يخص توسيع المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، الذي يتبناه بينيت الرئيس السابق لمجلس المستوطنات بشكل رئيس.
ذلك أن غانتس ليس المتهم الوحيد من قبل شركائه باتخاذ القرارات بشكل أحادي ودون الرجوع للحكومة، بل إن بينيت أيضا يفعل ذلك فيما يخص الاستيطان، والحكومة الإسرائيلية الحالية هي واحدة من أكثر الحكومات التي تشهد هذا "التنوع" بين مكوناتها، وأكثر من حكومات الوحدة السابقة، التي لم تنجح على أي حال، وكانت مؤقتة لمواجهة معضلة خارجية، لذا فإن افتقادها أيضا لرئيس قوي، بل كون رئيسها عديم الخبرة، ويتزعم حزبا محدود التمثيل النيابي، يعني أنه من شبه المستحيل أن تستمر طويلا، وأنها إزاء أول منعطف، ستنهار.