يعزو الكثير، وهم على حق، أسباب الهجرة، خاصة هجرة الشباب، من قطاع غزة إلى العامل الاقتصادي حيث البطالة المرتفعة وندرة العمل وتكدس الخريجين الذين يضطرون الى النوم في النهار والسهر في الليل حتى لا يسمعون كلمة من أهاليهم بخصوص العمل، مقضينها نوم أو تركيز حيطان في شوارع وازقة الحارات. 

من كان من الشباب محظوظا، خاصة المتزوجين والمدخنين منهم يضطر للعمل بطعم الذل عند العرب، حتى يستطيع أن يلبي احتياجات بيته أو طلبات زوجته أو حتى أن يقدر على إعطاء طفله شيكل وهو ذاهب صباحا إلى المدرسة أو الروضة بدلا من أن يكشر في وجهه ويسلخه كف على وجهه الطري؟!، او حتى كي يجد ثمن عدد من السجائر الخنتريش حتي ينفثها في الهواء الطلق لعله يخفف من كبته قليلا.

العمل عند العرب فقط للمحظوظين ومن عندهم معرفة وواسطة، أجرة منخفضة تتراوح حول ال 20 شيكل في اليوم، ساعات عمل طويلة تمتد إلى 18 ساعة في اليوم، ذل وإهانة وخدمة اقرب الى ان يكون خداما لصاحب العمل منها إلى العامل، إضافة إلى العمل الذي يقوم به، طبعا دون أي حقوق مادية أو إنسانية، اجازات، تأمين صحي، نهاية خدمة، تعويض في حالة الطرد من العمل أو الإصابة وإنهاء الخدمة..... باختصار سخرة وعبودية اقرب منها إلى العمل.

رغم كل ذلك، لا تقتصر أسباب الهجرة من غزة على العامل الاقتصادي، رغم أهمية ذلك كما أسلفنا، والدليل على ذلك ضعف الدخل الذي يتلقاه المهاجر وضعف أوضاعه الاقتصادية الجديدة، (أكثر من 90% من المغتربين خارج قطاع غزة يتم تحويل لهم أموال من غزة.... 8% منهم قادر على الإكتفاء الذاتي، بينما 2% فقط منهم يرسل أموالا لغزة، د. محمد أبو سعدة).

أسباب الهجرة تتشعب وتمتد ويمكن اختصارها بكلمة واحدة: انعدام الحياة، الموت، موت الموت؟!

غزة تعاني من انعدام الحياة وفقدان الأمل وعدم الطمأنينة والخوف من المجهول القادم، فش استقرار ولا أمن نفسي ولا طمأنينة.

ماذا يعني الخوف من كل شيء، الخوف من تحليق الطيران الحربي، الخوف من انتشار الزنانات وصوتها المزعج القاتل، الخوف من التصعيد أو الحرب القادمة، الخوف من تصريح مسؤول كبير أو قائد صغير، الخوف من فذلكة ناشط اجتماعي أو صحفي يريد أن يسجل سبقا صحفيا فيكتب على صفحته: اعتقد ان الليلة سيزمر، دون أدنى مراعاة لمشاعر الناس....

الناس الملدوغة التي ترى في كل حبل مجرور هام وحية؟! الناس التي لم تعد تفرق بين صوت فتح الشباك أو الباب أو صوت عجلات سيارات الشحن عند المطب أو صوت صحن يقع في المطبخ فجأة مع صوت القصف؟!
الناس التي تتوقع الأسوأ دائما، تأخرت المرتبات، فش مرتبات هذا الشهر، فيه خنصرة من المرتبات هذا الشهر، المتقاعدين العسكريين مقبضوش.... تأخرت الشؤون..... تأخرت كثيرا، شنطة العمادي ما دخلتش، مرتبات الوكالة تأخرت.... جداول الكهرباء، عدم صلاحية المياه حتى للزراعة....

الوضع النفسي المزري والخوف الذي يسيطر على الناس والتوجس من الغد هو احد اهم عوامل الهجرة، هجرة العائلات التي تركت أعمالها المعقولة وباعت املاكها، 

هجرة حملة الشهادات العليا الذين تركوا تخصصاتهم وأعمالهم شبه الجيدة، هجرة كبار السن الذين يخاطرون في مستقبلهم ومستقبل بناتهم واولادهم، كيف سيبدأون حياة جديدة في بيئة مختلفة تماما وثقافة متناقضة مع الثقافة التي تربوا عليها، هل سيجد هؤلاء الأهل والأصدقاء والصحبة والجيرة ليواسوهم في هذا العمر المتقدم وفي هذه البلاد الجديدة الباردة؟! 

هجرة امثال هؤلاء لا يمكن أن تكون لأسباب اقتصادية، هي هجرة من أجل الأمل في مستقبل جديد، ان لم يكن لهم بعد أن فاتهم قطار العمر فليكن لابنائهم واحفادهم، الأمل في جو من الهدوء والراحة النفسية والطمأنينة، التوقف عن سماع الخطب العنترية والتصريحات عابرة القارات، الأمل في التوقف عن سماع الكذب.

غزة في وضعها الحالي، اقتصاديا واجتماعيا وصحيا ونفسيا، مكان طارد لكل من فيها، نحن لا نبشر بالهجرة ولا ندعو لها، ولا نشجع عليها، وانا شخصيا وعائليا لن اهاجر حتى لو هاجر كل الناس، لكنني أضع هذا الواقع عاريا أمام من هو مسؤول أو من يدعي ذلك، 

لن تجدي كل آيات الصبر والرباط وقيم الوطنية والصمود والنضال وكل الخطب الرنانة في وقف قطار الهجرة، كما لن تنفع كل صور الموت غرقا في البحار والمحيطات أو الموت في الغابات بين الثلوج وفي البراري تحت أشعة الشمس اللاهبة. لن ينفع الوعظ والارشاد، لن يجدي لطم الامهات الثكلى ولا دموع الآباء وصراخهم في وقف قطار الهجرة. هذا القطار لن يتوقف الا بعد إيجاد حلول حقيقية لكل المشاكل التي يرزح تحتها أهل غزة، المشاكل المتلتلة والجاثمة فوق صدورهم والغير قادرين بسببها حتى على تنفس الهواء من عظيم ثقلها. 

اوقفوا الهجرة.... اوقفوا الموت الزؤام؟! انتبهوا جيدا أن يلتقط الاحتلال هذه الظروف والرغبة العارمة في الخلاص والهجرة ويحولها إلى مشاريع تهجير؟!.

أصل المقال