منذ أن انطلى «علينا»، أو على البعض منّا على الأقل، «تسلّل» منصور عباس إلى «القائمة المشتركة» في حينه، ومنذ قام بفعلته المدبّرة بالانقلاب على هذه القائمة، وتسديد ضربته الموجعة للحركة الوطنية في الداخل الفلسطيني، كان يجب أن نفهم بأننا أمام نهج مدروس بعناية، وأمام خطة محكمة لتشتيت شمل الحالة الوطنية في أشد مراحل التماسك الوطني أهمية وحساسية، وفي شق طريق جديد أمام أهلنا في الداخل للعبور إلى ميدان التأثير والتغيير، وإلى مسار تاريخي جديد أقله إرباك حقيقي للخارطة السياسية الإسرائيلية، وفرض الحالة الوطنية الفلسطينية على هذه الخارطة.
بل واكثر من ذلك، فقد تحول هذا الإرباك «المنتظر» آنذاك إلى هاجس يقضّ مضاجع اليمين والوسط واليسار حتى وإن لم يكن الأمر على حد سواء.
لم يرق للكثيرين في حينه أن بعضنا على الأقل وصف تلك الضربة الموجعة بأنها ليست سوى أحد أشد أنواع الخيانة خطرا وتأثيرا، بل وفتكا إذا شئتم. واستمر بعضنا «بالمراهنة» على إسقاط نتنياهو حتى ولو بثمن «التضحية» بتماسك الحالة الوطنية في الداخل، وبالطريق الجديد وبالدور الجديد لهذه الحالة، وكأن إسقاط نتنياهو لم يكن ممكنا او متيسرا الا عبر هذه «التضحية»، أو وكأن السبل كلها قد سدّت، وان لا مناص من تشتيت الحالة الوطنية.
إذاً وبالرغم من افتضاح أمر منصور عباس وجماعته منذ زمن، الا ان عدم التصدي له ولاطروحاته البهلوانية «سهّل» عليه «الاستهتار» بالحالة الوطنية، بل وربما ان التراخي الرسمي الفلسطيني على هذا الصعيد، اضافة الى الصمت المطبق من جماعة الإخوان في غزة ـ أي حركة حماس ـ قد شجع منصور عباس لاستمراء هذا العبث، ومواصلة لعبة الاستهبال السياسي التي يُمارسها.
حاول منصور عباس أن يلعب على وتر الاحتياجات المعيشية والحيوية لتبرير كامل نهجه هذا، وأجهد نفسه، واستنزف كامل طاقته في «التأكيد» على الطابع العملي، وأحياناً النفعي المباشر لهذا النهج، وعلى «عدم جدوى» الصدام مع المشروع الصهيوني عبر بوابة الحقوق الوطنية والقومية، بل وبالمطالبة الصريحة بمغادرة ساحة هذه الحقوق، و»تركيز» كل الجهود على «تحقيق» بعض المطالب الملحة من تلك الاحتياجات.
إلى هنا كان يمكن له ان يواصل الخداع، وكان للبعض ان يرضى لنفسه هذا الانخداع، وكان لتوأم جماعته في غزة أن «تَغْرُش» على كل ما كان يجري، وعلى كل ما كان سيجري حتماً، بل وكان ممكناً تحت يافطة «عدم التدخل المباشر من خارج الداخل الفلسطيني» أن يواصل منصور عباس لعبة الرقص في حلبة اليمين الصهيوني، بما في ذلك اليمين الاستيطاني العنصري، إلى أن «أوصلنا» بكل مكرٍ وخُبثٍ ودرايةٍ الى الإعلان الرسمي عن حقيقة الدور الذي بات يلعبه، وعن مدى الخطر الذي يمثله.
لم يترددّ منصور عباس أن يعلن عن حقيقة موقفه، ولم يجد أي حرج على الإطلاق في «التسليم» التام والكامل و»الطبيعي» بيهودية الدولة، وبما يشبه القبول الطوعي بها «كحقيقة بديهية».
الأنكى من ذلك كله أن منصور عباس قد خيّر أهلنا في الداخل الفلسطيني بين أن «يعقلوا»، ويسلموا، ويقبلوا هذه «البديهية» وبين أن يتخلوا عن مواطنيتهم في إسرائيل!
أي ان هذا «الجهبذ» و»العبقري»، والمقطوع صنفه فعلاً أصبح يربط ما بين حق المواطنة للاهل في الداخل وبين الاعتراف المسبق بيهودية الدولة.
باختصار تفوق منصور عباس على الكثير الكثير من الاحزاب الصهيونية من اليسار، ومن الوسط، بل وتفوق في الواقع على أطراف رئيسية من اليمين الصهيوني نفسه في سابقة «تفوقت» على كل سابقة، وفي سبق سياسي ليس له مثيل.
هذا السياق الكامل من المقدمات التي اتسمت بها سياسة فرع الإخوان المسلمين في الداخل الفلسطيني ما كان يمكن الا ان تفضي لما أفضت اليه، وما كان منتظراً من واحد «تجشّم» عناء ضرب الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل الفلسطيني، والانقلاب عليها والتآمر على وحدتها ووحدة أداتها سوى أن يتوج سيرته ومساره الا بهذا القدر، وهذه الدرجة من الإساءة إلى كل شعبنا، ومن التنكر لحقوقه وأهدافه.
وما كان ممكناً لواحدٍ مثل منصور عباس أن يتجرّأ على ما تجرّأ عليه لولا أننا نعيش في مرحلة الانفلات.
فالذين صمتوا، والذين غرشوا، والذين تغاضوا، والذين تغافلوا هم شركاء من الباطن في المقاولة الفكرية والسياسية التي باتت «مطروحة» على الشعب الفلسطيني تحت مسميات متنوعة من «أيديولوجيا» الاحتياجات، والأمن مقابل الاقتصاد، وتحسين الظروف المعيشية، وتطوير المشاريع، و»تقليص الصراع» والتجارة السياسية بنظام الشنطة وغيرها وغيرها من هو قائم وغيرها وغيرها مما هو قادم.
مرحلة الانفلات هي مرحلة بيع الهويات، والتماهي مع الأصوليات، وهي مرحلة التخلي عن القيم والاهداف والحقوق تحت وابل من المزايدات والشعارات التي هي ليست سوى الاغطية الرثّة والقذرة التي يحاول الكثيرون في زمن الانفلات ستر عوراتهم، وإخفاء إخفاقاتهم وعجزهم، والتستر على أخطائهم وخطاياهم.
في زمن الانفلات يمكن لمنصور عباس أن يتهكم على الحركة الوطنية كلها، في الداخل والخارج، وفي كل مكان، وفي زمن الانفلات لم يعد منصور عباس حتى بحاجة إلى بعض الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية الشريفة لتبرير وتفسير فعلته الجديدة، تماماً كما لم يعد البعض الآخر يحرص على تبرير تماهيه وبيعه لفكره وهويته، او السكوت والصمت عن أخطاء وخطايا أقرانه وأتباعه ومتبوعيه، وأظن أن زمن الانفلات ليس سوى النسخة الحديثة عن زمن الرويبضة.