أفترض أن كل ناشط سياسي، وكل مثقف فلسطيني يرتبط بهموم شعبه وقضيته، وكل كاتب، وكل فاعل في الحقل الاجتماعي لا بدّ أنه يسأل نفسه السؤال الآتي:
أين هي مكامن الخلل والقصور التي تفسر لنا الحالة الفلسطينية الراهنة؟ ومن هو، أو من هي الجهة، أو الجهات المسؤولة عن وجود هذه الأوجه من الخلل والقصور، ولماذا نستمر إذا كنا نجزم جميعا بوجودها، وباستمرارها، بل وتعمق الخسائر والأضرار التي تخلفها؟
وأفترض أن بعض النخب والفصائل والقوى تعيش ليومها، وليست بوارد التوقف أمام الحالة الوطنية، والتفكير بأسئلة الواقع، وحتى لو أنها لم تستشعر «بعد» مسؤولية هذا التوقف، فإن من المؤكد أن الخسارات التي تمنى بها هذه الفصائل والقوى، وحالة الانطواء والانزواء التي يتميز بها واقع تلك النخب لا بد أن تستدعي ولو «موسمياً»، أو عند اشتداد الأزمات، أو حتى عندما تحتّم بعض المراحل والمحطات مثل هذا التوقف.
يحدث أحياناً أن تتاح بعض الفرص للكاتب السياسي أن يشارك بمثل هذه المحاولات لتفسير الحالة الفلسطينية الراهنة، من خلال عشرات الندوات والمؤتمرات، ومن خلال مئات المقالات والأبحاث الجادة، ومن خلال متابعة المنشورات الجادة على وسائل التواصل، ومن خلال الكثير الكثير من التفاعلات المسؤولة والرصينة على هذه الوسائل.
ويحدث أن يحاول المرء أسوة بغيره وأن يحاول ويحاول التأمّل والتفكير بهذه الأسئلة، وأن يحاول ـ بقدر ما هو متاح ـ أن يجيب عنها، أو أن يتلمس مثل هذه الإجابة.
منذ فترة طويلة وأنا أراقب نفسي أولاً، وأراقب كتابات زميلاتي وزملائي من الكتّاب المنخرطين في الهمّ السياسي ـ وليس العمل السياسي بالضرورة ـ وكذلك القوى والفصائل والنخب، والعاملين والناشطين في الحقل الثقافي الوطني العام علّني أستطيع تقديم ما يمكن اعتباره مساهمة، مهما كانت متواضعة حيال أسئلة الحالة الراهنة وأجوبتها.
الحصيلة التي توصلت إليها متواضعة، ولم تكن مقنعة لي، وسألت نفسي؛ فكيف ستكون مقنعة لغيري؟
وبالرغم من ذلك كله فإنني لم أقتنع بالمقابل بأن قدراتنا كفلسطينيين هي متواضعة إلى هذه الدرجة، ولم أقتنع بالتالي أن الأمر برمّته يتعلق بالقدرة على قراءة الحالة الراهنة، ولا بد من أن شيئاً ما غائب عن رؤية الواقع، أو مغيب سواء أدركناه أم لم ندركه!
هذا «الشيء» الغائب أو المغيب ليس وليد هذه المرحلة، وهو ـ كما أرى وأفترض ـ نتاج وليس سبباً، وهو جوهري، وليس مجرد عارض، أو عابر، أو مؤقت، وهو حيوي، مصيري، وجودي وحاسم ومقرر في هذا الوجود وهذا المصير.
أقصد أن الحالة الفلسطينية ليست مجرد حالة متعثرة، أو أنها تعاني من صعوبة هنا وأخرى هناك، والصعوبات والاستعصاءات ليست بسبب صعوبات المرحلة السياسية، أو مجرد إشكالات كبيرة في المحيط العربي أو الدولي، وليس فقط بسبب الانقسام، أو الصراع على السلطة، وهي أبعد ـ على ما يبدو ـ من أن تحل بمجرد إجراء مراجعة، والتوافق الوطني على وحدة وطنية ـ ما ـ، من نوع ـ ما ـ، وإلى حد ـ ما ـ.
لا أقلل بطبيعة الحال من أهمية كل ذلك، ولكنني أدعو إلى التأمّل والتفكير في ما هو أبعد من هذه القراءة.
لو سألنا أي فلسطيني أو فلسطينية اليوم السؤال الآتي: كيف تصفين/ تصف لنا، الحالة الفلسطينية الراهنة، فكيف سيكون جوابها/ جوابه على وجه التقريب.
الغالبية الساحقة من الفلسطينيين سيجيبون بأن هذه الحالة تنطوي على انعدام اليقين السياسي والاقتصادي، والتشوه الاجتماعي والتشتت الثقافي!
وباللسان الشعبي سنجد من يقول؛ الحالة صعبة، تعبانة، «مغرّزة»، أو موحّلة، أو أشياء من هذا القبيل.
وبلغة أهل الثقافة والعلم سنجد من يقول؛ أزمة خانقة، حالة انحدار خطرة، تهديد للمصير الوطني، ندخل في مرحلة من التيه السياسي، فقدنا القدرة على السيطرة، تتفشى أمراض الفساد والتكسّب، وتتراجع القيم التي تربّت عليها الأجيال الوطنية المتعاقبة...!
تحول المشروع الوطني أو هو في الطريق إلى أن يتحول إلى صراع على المصالح الخاصة، ولم يعد هذا المشروع قادراً على أن يجند الشعب للسير خلفه أو الدفاع عنه.
كيف وصلنا إلى هذه الحالة؟
أيُعقل أن شعبنا الذي هو باعتراف التاريخ وتسجيله وتوثيقه، ومئات آلاف الشهداء والأسرى، وعرف بكفاحية وطنية عزّ مثيلها، وقاوم الهجمة الاستعمارية والصهيونية على مدى أكثر من قرن من الكفاح الوطني.. أيعقل أن يظل يعيش في هذه الحالة (الانتظارية) القاتلة؟!
الجواب عن السؤال الأول: «كيف وصلنا إلى هذه الحالة؟» هو سؤال البحث السياسي التاريخي الذي يتحرّى الحقيقة بصرف النظر عن رأي السلطات الرسمية والمؤسسات الحزبية، والقوى والفصائل والمنظمات، وبصرف النظر عن آراء الشخصيات الوطنية المستقلة والتابعة، وبصرف النظر عن الأهواء والمصالح، وعن الاعتبارات السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية.
والجواب عن السؤال الثاني «أيُعقل أن يظل يعيش في هذه الحالة (الانتظارية) القاتلة؟».. الجواب بكل تأكيد ويقينية؛ لا.
في ضوء ذلك، فإن القضايا التي أرى فيها المدخل، والذي أعتبره مدخلاً منطقياً أولاً، وعلمياً ثانياً، وواقعياً ثالثاً، وضرورياً رابعاً، وممكناً خامساً، لمحاولة أولية للإجابة عن السؤال الأول هي الآتية:
- هل نعرف حقاً، ونعرف جيداً المشروع الصهيوني، من حيث ظروف النشأة والتكوين، ومن حيث الأهداف ومراحل هذه الأهداف، ومن حيث الأبعاد والدلالات، ومن حيث جذرية المشروع و»مرونته» السياسية، ومن حيث الأدوات والآليات؟
ثم هل لدينا معرفة أو إحاطة بنقاط قوته وضعفه، وهل بنينا استراتيجياتنا في ضوء هذه المعارف والإحاطة، وفي ضوء الأخطار التي يمثلها على وجودنا الوطني؟
كيف ومتى وأين؟، هذه قضية أولى للتأمّل والتفكير!
- هل لدينا رواية واحدة عن قضيتنا الوطنية؟
البعض منا لا يعرف عن روايتنا إلا بعض الشذرات المبعثرة، والبعض يعتقد أن حقنا التاريخي في فلسطين هو حق ديني، وبعضنا يرى أن هذا الحق عربي وقومي، في حين أن البعض الآخر يرى أن حقنا ثابت بوجود شعبنا على أرضه منذ ما يزيد على خمسة آلاف سنة!
هذا جانب من قضية الرواية.
الجانب الآخر؛ كيف لحركة تحرر وطني أن لا يكون لديها آليات وميكانزمات الربط بين الرواية التاريخية والحديثة والمعاصرة وما بين الأهداف والبرامج السياسية؟
وهل حل الدولة الواحدة، أو الدولتين، أو التقسيم، أو الثنائية القومية، أو حتى «وطن واحد لشعبين»، أو غيرها.. هل في كل هذه «الحلول»، أو لكل هذه الحلول من علاقة أو رابط مع الرواية الوطنية؟
- هل ندرك بصورة مشتركة أو موحدة وواحدة أن الشعب الفلسطيني لن يتمكن مطلقاً من أن يهزم المشروع الصهيوني بقواه الخاصة والذاتية، وأن مشروعه التحرري يحتاج بصورة «لا غنى عنها» لحالة قومية وظروف دولية مواتية، وأن حركة التحرر التي تمتلك الرؤى والأدوات والبرامج التي تجعل من الكفاح التحرري الوطني الفلسطيني مجرد رأس رمح في هذه المعادلة هي المؤهلة الوحيدة لقيادة هذا الكفاح؟، وأن الشعوب العربية وقواها التحررية هي جزء أصيل من المعركة.
- هل تمتلك حركة التحرر الوطني الفلسطيني أي رؤى مشتركة للعمل مع الشعب الإسرائيلي، باعتبار أن هذا العمل هو جزء أصيل من المهمات الوطنية والتحررية، وأن خصوصية القضية الفلسطينية بالذات تتطلب مثل هذا العمل أكثر من أي حركة تحرر في هذا العالم.
هذه مجرد عناوين للتفكير والتأمّل، حتى لا نعتقد أن ما نمر به من حالة متردية مجرد حالة عابرة أو بعض الصعوبات في الظروف المحيطة.