يمثل القرار العدواني لوزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس بتصنيف ستة مؤسسات مجتمع مدني فلسطينية على أنها مؤسسات “إرهابية” واحدا من أخطر القرارات التي تتخذها دولة الاحتلال ضد المجتمع الفلسطيني بعامة، وضد ركائزه وأعمدته الأهلية والوطنية التي حافظت عليه مجتمعا عفيّا ومتماسكا، ومتمسكا بهويته الوطنية وعصيّا على التدمير والتجريف والاختراق. على الرغم من كل المحاولات التي بذلتها دولة الاحتلال وأجهزتها، قبل مجيء السلطة وبعد قيامها، وعلى امتداد اكثر من خمسة عقود، للقضاء على عناصر القوة والمنعة والصمود في المجتمع الفلسطيني، بما في ذلك مقوّمات الشخصية الوطنية.
القرار الذي نشرته وزارة “القضاء الإسرائيلية” استهدف كلا من مؤسستي “الحق” و”الضمير” الحقوقيتين، والحركة العالمية للدفاع عن الأطفال، واتحاد لجان العمل الصحي واتحاد لجان العمل الزراعي، واتحاد لجان المرأة الفلسطينية، ومركز “بيسان” للدراسات والبحوث، بزعم علاقة هذه المؤسسات بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أو لوجود بعض كوادر الجبهة في إدارة هذه المؤسسات أو ضمن العاملين فيها.
بعض هذه المؤسسات، إن لم تكن جميعها، أعضاء في شبكات دولية وإقليمية متخصصة ومرموقة، وهي مثلها تقدم خدمات إنسانية وإغاثية وتنموية وحقوقية لمئات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين، وخصوصا في المناطق والقطاعات المهمشة المحرومة من المشاريع التنموية. فضلا عن أن هذه المؤسسات تتمتع بأعلى درجات الشفافية، حيث أن مجمل اعمالها ومصادر تمويلها علنية ومكشوفة لمن يريد الاطلاع، وخاضعة لرقابة الجهات المختصة في السلطة الفلسطينية، فضلا عن الرقابة الصارمة التي تفرضها الجهات الدولية المانحة، والتي تدقق في كل صغيرة وكبيرة قبل الموافقة على تمويل أي مشروع، وأثناء تنفيذه، وبعد إنجازه، وهذه الحقائق المالية والإدارية، بالإضافة إلى الطابع الجماعي للقرار، تؤكد أنه قرار سياسي يستهدف الشعب الفلسطيني كله ومؤسساته الأهلية والاجتماعية.
وزير الحرب الإسرائيلي هو بحكم القانون العسكري النافذ، رأس المؤسسة العسكرية الاحتلالية في المناطق المحتلة عام 1967، بما في ذلك الإدارة المدنية، والارتباط العسكري والمدني، ومنسق أعمال جيش الاحتلال، وهو بحكم وظيفته يمثل المرجعية القضائية العليا لكل ما يمس حياة خمسة ملايين فلسطيني تحت الاحتلال، كما أنه المسؤول الأعلى عن شبكات الاستيطان في الضفة، ولذلك فهو لا يعير أي اهتمام للقضاء والمحاكم النظامية المدنية الإسرائيلية، ولا لوجود السلطة الوطنية الفلسطينية، ناهيك عن اختصاصات أجهزتها القضائية والإدارية. وهذا الوزير يحاول أن يظهر وجها حمائميا عبر إطلاق تصريحات تشجع على التعاون والتنسيق مع السلطة وتقديم الدعم لها في مواجهة الضائقة الاقتصادية، ، ولكن يجدر بنا ألا ننسى أن حكومة بينيت لابيد تتصرف وفق خطوط عريضة متفق عليها وأبرز معالمها مواصلة الاستيطان وتهويد القدس وتنفيذ مخطط الضم، والقيام بكل ما من شأنه منع فرصة قيام دولة فلسطينية مستقلة، وهذا الشخص بالتحديد (بيني غانتس) تحوم حوله شبهات قوية بإصدار أوامر عسكرية لجيشه أفضت إلى ارتكاب جرائم حرب موصوفة في العامين 2012، و2014 خلال حربين شنتهما إسرائيل على قطاع غزة أثناء ترؤسه لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي، وليس من قبيل الصدفة أن قراره بشأن المنظمات الستة شمل مؤسسات حقوقية، وخاصة مؤسسة الحق، ناشطة في متابعة جرائمه وتقديم الملف القانوني للمحكمة الجنائية الدولية.
أما الادعاء بعلاقة هذه المؤسسات بالجبهة الشعبية فهي محاولة لنزع شرعية النضال الوطني الفلسطيني ووصمه بالإرهاب. ولا تصمد محاولة إدانة هذه المؤسسات أمام أبسط فحص، لأنها تعمل علانية في الأراضي الفلسطينية منذ عشرات السنين، ولو ثبتت أية مخالفة مزعومة بحق اي منها لما تأخرت إسرائيل في إغلاقها ومحاربتها في حينه.
كما أن إسرائيل لو مدّت هذه السياسة على استقامتها فحاربت كل مؤسسة لها علاقة ب”الشعبية” أو بأي فصيل يناضل ضد الاحتلال، فسوف يكون عليها إغلاق الجامعات والمدارس والمستشفيات والأندية الرياضية وكل مؤسسات العمل العام وحتى الخاص، وهو أمر مستحيل، لكنه يكشف أن دولة إسرائيل تتصرف تجاه الجبهة الشعبية منذ اغتيال زئيفي، بمنطق الانتقام وتصفية الحسابات، وهو منطق يليق بالعصابات لا بمنطق دولة القانون والمؤسسات.
استهداف المؤسسات الست هو استهداف للمجتمع الفلسطيني بكل مكوناته، ولا شك أن إسرائيل تجد في التواطؤ الأميركي الغربي معها تشجيعا على مواصلة سياسات إرهاب الدولة تجاه الفلسطينيين، كما أن المشكلات الداخلية التي يعانيها المجتمع الفلسطيني بما فيها الانقسام وسوء الأداء والفساد، تغري دولة الاحتلال بارتكاب هذه الانتهاكات الجسيمة، وتضعف قدرتنا على الرد على محاولات تجريف مجتمعنا وتحويلنا إلى مجرد “حطابين وسقاة ماء” في خدمة المشروع الصهيوني.
وفي غمرة المديح والنفاق الذي تحظى به إسرائيل من الغرب وآخرها ما قالته المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، التي وصفت إسرائيل ب”منارة وسط بحر هائج” وأنها البلد الوحيد في المنطقة الذي تتوفر فيه الديمقراطية وسلطة القانون وحرية التعبير، يلوح خطر حقيقي بأن تعتمد أوروبا المعايير الإسرائيلية العنصرية في تجريم النضال الفلسطيني ووصمه بالإرهاب، سواء تعلق ذلك بشروط التمويل، او في الجوانب القانونية والسياسية، ما يستدعي ردا فلسطينيا موحدا وشاملا في الدفاع عن مؤسساتنا وعن مجتمعنا وحقوق مواطنينا، وعن شرعية نضالنا وتعدديتنا السياسية والفكرية.