رغم ما تملكه روسيا من قوة وإمكانيات عسكرية هائلة، وما تلقته أوكرانيا من دعم عسكري ومالي غربي، إلا أن الحرب بينهما تكاد تكون لعبة، لا تتخللها مظاهر وحشية الحروب التي جرت منذ مطلع الألفية الثالثة، إن كان في العراق أو أفغانستان أو غزة، أو حتى الحروب الأهلية التي جرت في ليبيا وسورية واليمن، ويؤكد ذلك ما يجري من محادثات بين الطرفين، وربما كان السبب يعود إلى أن الحروب التي يكون فيها الغرب طرفاً، تكون بلا رحمة ولا كابح، أما الحرب الروسية فكل عيون الغرب مفتوحة عليها، كما أن الروس يقومون بعملية عسكرية لا يعتبرونها موجهة للجارة الشقيقة أوكرانيا، بل إلى مجموعة الحكم من القوميين الذين يكنون الكره والحقد للروس.
عدم ملاحظة مظاهر تدمير وحشية، أو سقوط ضحايا بأعداد هائلة في صفوف المدنيين، ليس هو الدال الوحيد على أن الحرب ناعمة، بل أن يجلس ممثلو البلدين ليتفاوضوا حول وقفها أمر بحد ذاته لم يحدث من قبل، فالتفاوض عادة ما يجري قبل أو بعد الحرب، قبلها لمنع اندلاعها، أو بعدها لترتيب نتائجها، أما أن تجري خلالها فهذا أمر جديد حقاً، المهم أنه بالنظر إلى أنهما لن يتفقا خاصة سريعاً على اتفاق أو حل، لكنهما بعد جولتين وبعد أسبوع واحد فقط من الحرب اتفقا على جولة ثالثة، وعلى فتح ممرات إنسانية للمدن الأوكرانية المحاصرة، لتسهيل خروج المدنيين ووصول الإمدادات اللازمة للناس.
اقرأ/ي أيضاً: محور روسي صيني لتقويض الدولار..
وكأن الغرب يهدف إلى تفريغ أوكرانيا من سكانها وتوطينهم في بلاده الشائخة، كما فعل مع سورية من قبل، فقد فر نحو مليون أوكراني حتى الآن من بلدهم، متجهين إلى الغرب، مروراً بدول الجوار: بولندا، رومانيا، المجر وسلوفاكيا، في حين تشير التقديرات إلى أن عدد المهاجرين قد يصل إلى سبعة ملايين من أصل 44 مليون أوكراني، أما فيما يتعلق بما ستخسره أوروبا اقتصادياً من قطع العلاقات التجارية مع موسكو، فمجرد أن تضع الحرب أوزارها ستعود الأمور إلى سابق عهدها، إلا إذا واصلت أميركا حربها الاقتصادية ضد روسيا وقامت بتعويض أوروبا، أو أن تفعل أوروبا كما فعلت في الملف الإيراني، فتقوم بالضغط على أميركا لتكتفي بما حققته من عودة نفوذ الناتو في شرق أوروبا، لتطوق الطرفين الروسي والأوروبي بماردها العسكري، حتى تتفرغ أميركا تالياً لمواجهة المارد الصيني.
وإذا كانت أوروبا الرسمية، بما هي محكومة له من حكومات يمينية متشددة حالياً، قد تساوقت مع خطة أميركا بهذا الشأن، فإن الملاحظ أن شعوبها لم تكن كذلك، فرغم مرور يومي عطلة أسبوعية، أي يومي أحد منذ بدء الحرب، إلا أن تظاهرة جدية لم تظهر في أي من المدن الأوروبية ولا حتى الأميركية، وذلك بسبب الذكاء الميداني الروسي، المستمد من ذكاء الرئيس فلاديمير بوتين نفسه، الذي استهدف المؤسسات العسكرية والأمنية وحدد أهداف العملية العسكرية بدقة، ورغم التغطية الإعلامية المباشرة وعلى مدار 24 ساعة يومياً ومحاولة الإعلام المنحاز اليائسة لإظهار أي استهداف للمدنيين، إلا أن سقوط ضحايا مدنيين لا يكاد يذكر، كذلك لم يطل التدمير شيئاً مهماً من المباني السكنية الفارغة من المواطنين بعد أن فروا من بلدهم.
كذلك فإن تشبث الطرف الروسي المفاوض بشروطه في اعتراف كييف بروسية القرم، وبحياد أوكرانيا، أي عدم انضمامها للناتو، وبنزع سلاحها، وبالحقيقة على الأرض المتمثلة باستقلال جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك، وعدم السعي لامتلاك السلاح النووي، يعني أن الجانب الروسي ما زال هو الطرف المتحكم على الأرض بزمام المبادرة العسكرية والسياسية، وأنه لا مناص أمام الرئيس الأوكراني، الذي يبدو أنه لم يكن أكثر من "ممثل" هزلي على خشبة مسرحية تديرها واشنطن كمخرج يحركه كما يشاء، إلا اللجوء إلى لندن أو غيرها، حيث لا يفعل شيئاً هذه الأيام سوى التأكيد كل يوم على أنه لم يغادر البلاد، في حين أن نتيجة المواجهة العسكرية واضحة النهاية ومحتومة، بعد أن اتضح تماماً أن حدود اللعبة الأميركية لن تصل إلى حد إطلاق حرب عالمية ثالثة من أجل الحفاظ على نظام هذا الرئيس الغر، الذي لم يدرك خلال ثلاث سنوات من حكمه، الفارق بين التمثيل الهزلي واللعبة الحقيقية في السياسة.
وميدانياً، فإن روسيا وهي تقوم بتطويق العاصمة كييف، ومحاصرة المدينة الثانية خاركوف، قامت بعزل أوكرانيا عن العالم الخارجي، بالسيطرة على طرق وصولها للبحر الأسود، وقامت في الوقت نفسه، بتوسيع المدى الجغرافي للقرم التابع لها، وضم أراض جديدة لجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، في الشرق، بحيث إن مساحة أوكرانيا ستكون قد تقلصت جغرافياً وتعداد سكانها قد تناقص بالهجرة، وبالتالي ستصبح أضعف مما كانت عليه، وإذا نجحت كما هو متوقع محاولتها في إسقاط نظام حكم فلاديمير زيلينسكي، فإنها بذلك تكون قد أمنت شر الجارة التي أرادت أميركا من خلالها، إضعاف روسيا والوصول إلى غرفة نوم الكرملين.
ملخص القول: إن على العالم أن يفكر، منذ الآن، بما هو قادم بعد هذا الفصل المسرحي من السياسة الدولية، على طريق تدشين نظام عالمي جديد، متعدد الأقطاب، حيث بات ذلك أمراً شبه مؤكد، وأن الصراع يجري حول ماهية هذا النظام، وإن كان سيكون ثنائياً أو ثلاثياً أو رباعياً: ثنائياً، كما كان حال الحرب الباردة، أي بين شرق وغرب، شرق صيني وروسي، وغرب أميركي/أوربي، أو ثلاثياً مكوناً من روسيا، الصين، والغرب، أو رباعياً، أي مكوناً من الصين، روسيا، الاتحاد الأوروبي، وأميركا.
كذلك البحث في التخوم التي سيجري التنافس والصراع ضمن إطارها، أي المدى الذي يمكن أن يسمح فيه باستخدام القوة العسكرية، وما هي طبيعة وشكل التبادل التجاري بين المتنافسين من الأقطاب العالمية، خاصة أن القوة الاقتصادية نفسها، منها ما يعتمد على المواد الخام، كما هو حال روسيا التي تمتلك الغاز والنفط والسلاح، ومنها ما يمتلك التصنيع والبضائع كما هو حال الصين وأوروبا، وهنا يبدو التشابه بين أميركا وروسيا من جهة والصين وأوروبا من جهة ثانية جلياً وواضحاً.
ولعله كذلك يبدأ التفكير جدياً في واجهة النظام العالمي، أو إطاره وشكله، ونعني الأمم المتحدة، وهل ستبقى على هذه الحال التي هي عليها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، أم أن ألمانيا وربما اليابان ستجدان الطريق للدخول إلى محفل العضوية الدائمة لمجلس الأمن، بما يعني أن القوة الاقتصادية صارت تعادل القوة العسكرية، ذلك أن الدولتين ليستا نوويتين، ولا تمتلكان قوة عسكرية مهمة، رغم قوتيهما الاقتصادية الكبيرة.