حقيقة ما زلنا لا نتخيل حياتنا دونك. دون قصد نشعر بك معنا في كل لحظة، كأنّ غيابك القهري ليس إلا ستارة وهمية على خشبة الحياة، أو كأنك تمارس إحدى هواياتك في قياس نبض القلب. ليس لأنك غبت كل هذه السنوات، ولكن لأنك ما زلت موجوداً رغم كل هذا الغياب. تتخيل أن أبرع الروائيين لا يستطيع نسج خيال كهذا، كما لا تستطيع أي عرافة أن تشي بأسرار غيابك. لم نصدق، أو نحن لا نريد أن نصدق، أو لسنا صادقين في تصديقنا، في المحصلة فإننا ما زلنا نظنك بيننا وأن الأمر كأنه مجرد سقوط آخر للطائرة في صحراء بعيدة، ستنهض كالعنقاء من رماد الزمن لتلوح لنا بيديك، مع قليل من التعب، وبعض غبار الرحلة على وجنتيك أو بعض القش على أطراف كوفيتك، لكنك بتماسك ستقف ملوّحاً كأنك تستعيد تفاصيل لقاء كان قبل لحظات. ليس كل الغياب غياباً، بعضه فقط، وكثيره إذا فاض القلب حضور. وحدك تعرف كيف تؤلمنا هذه الحكاية، ووحدك تدرك أن المزيد من الرحيل لا يجلب إلا المزيد من الخسارات، وأن تلك الخسارات دروب متعثرة في غابة التيه التي ما زلنا نؤمن بكلماتك أننا سنخرج منها، وأن ثمة دولة على مرمى حجر، وأننا على عتبات البيت وأنه سيفتح عما قليل. ثمة أمل ما زال في الجيوب لم تنفضه مطبّات الزمن منها، لكنك وحدك تعرف أننا نقبض عليه بشق الأنفس، وأننا من وطأة الحياة نعض على جراحنا بملح الشقاء.
هل تصدق أنك ذهبت مثل حكاية قديمة؟ ليس تماماً فحتى الأطفال الذين ولدوا بعد غيابك المرّ يظنون أنك بينهم. يتحدثون عنك ليس كقصة قبل النوم، ولا كبطل من خرافات الجدّات ينقذ ليلى من الذئب، أو يأتي بحذاء سندريلا أو يعطي قبلة الحياة للأميرة النائمة، بل ما زالوا يتعاملون معك حاضراً لا يرونه، وقائماً يسير بينهم، ثم إذا بحثوا عنك في دقة التفاصيل، تراهم يستذكرون ما يعرفونه عنك بهذا الغياب المؤقت الذي كنت تبرع به، وكأنك تعرف أن الحكاية الفلسطينية كلها قائمة على فكرة الغياب لأن النضال الذي نذرت له العمر قائم على فكرة قهر الغياب.
من يقهر من؟ هل تصدق أننا نستطيع أن نقهر الغياب؟ تعاليم المسيرة الطويلة منذ قلت: إنها ثورة حتى النصر.. قائمة على قهر هذا القهر، الفعل المضاد من أجل استجلاب النقيض، قتال طواحين الهواء من أجل أن يظل الهواء ينعش وجوهنا. ليس كذلك تماماً، ولكن من المؤكد أن ثمة قتالاً واجب، وأن ثمة ألماً واجب، وأن ثمة نزفاً من الوريد يروي جوانب الطريق، فتنمو الأعشاب والحشائش مثل حكايات الأطفال عنك، وتعيد إنتاج رائحة غيابك كما تتشبع بحضورك الذي لا يخبو. هكذا تظل الحكايات تتوالد حتى تتحقق الحكاية التي وعدتنا بها، الحكاية التي لن تكتمل سيرة الغياب إلا بحضورها.
في الحقيقة، أيضاً، إن التفكير في تلك المسيرة أيضاً يعيننا على تحمل هذا الألم. ألمنا الطويل الذي جاء الغزاة به مع بطشهم من أجل أن نبيد، أن نفنى ونصير ذكريات منسية في دروب الحياة. لولا هذا الفعل البطولي الذي لم يكن يقصد اجتراح البطولة، بل التغلب على آلام الدرب الذي قمت به ورفاقك، فجعلتم فكرة النفي تلك مستحيلة.
لسنا شعب المستحيل ولسنا ثورة المستحيل، صحيح أن الظروف مستحيلة ونحن منهكون من شدة الوجع، ومن قسوة الظروف، لكننا صرنا قادرين على الوقوف. كان يجب أن تختفي معالم وجوهنا وتبتلعنا الأرض حتى لا يبين لنا أثر. لم يحدث كل ذلك. بقينا مستحيلات في وجه مستحيلات تلاحق مستحيلات. هكذا صرنا شعب المستحيل. أما ما نقوم به فبسيط أبسط من أي قاعدة كونية في نواميس الطبيعة، فنحن نريد أن نظل على هذه الأرض.. ندافع عن البيت، عن شجرة الزيتون، عن حوض النعناع فوق العلية، عن خم الدجاج حتى لا تلتهمها الثعالب، عن حجارة الوادي بعد أن يهدأ، نريد أن نحافظ على تفاصيلنا حتى أثوابنا المعلقة على الحبل بين سروتين، نريد أن نظل جزءاً من الحكاية التي نحن أبطالها، أما الغزاة فكل الغزاة يذهبون في نهاية كل الحكايات، نريد حين يذهبون أن نكون في متن السرد. هكذا كان حضورك وكان غيابك جزءاً من تلك التفاصيل.
ليس هذا فحسب، بل إننا كلما مر الوقت أكثر نشعر أكثر أن الأمر مجرد مزحة وتنهض من جديد. ليست صورك وحدها، وليست كثرة أسماء «ياسر» بيننا، وليس لأن صورك ما زالت بوهجها على جدران البيوت وفي الطرقات وفي صدور المحلات وعلى مداخل المؤسسات والمراكز، كل هذا وليس هذا وحده، بل لأن ثمة شيئاً فيك عصي على التعرض لعوامل الزمن، أن يخبو أو يخف أو يجف أو يبهت أو أي شيء. ثمة شيء فيك يجعل غيابك غير محسوس وغير مدرك، وهو إلى جانب ذلك غير مصدق. تعرف لا أحد يصدق. فغيابك لم يحدث. صحيح ثمة ضريح، ثمة سارية عالية، وثمة إشارات واردة وذاهبة في الدماغ، لكنها كلها جزء من تلك التفاصيل التي تجعلنا لا نصدق.
ما زلنا موجوعين، ما زلنا نحزن إن غشانا الفقد، ما زلنا كأننا في تلك الليلة القاسية من تشرين، أي قسوة تشرينية كانت لا تضاهيها قسوة نيسان، كأننا في تلك الليلة المباركة من رمضان حين أنّت الحناجر تلهج بالدعاء لك في صلاة التراويح، ثم كأنك على غفلة من أمانينا ذهبت إلى نهايتك المرجوّة، فالأبطال لا يقبلون بأقل من هذه النهايات الساحرة في متون السرد. ياسر عرفات لا أقل.